عبدالوهاب الفايز
رحم الله الدكتور يوسف مكي.. لو كان بيننا اليوم، وشاهد الاعتراف الإسرائيلي بما يُسمّى «أرض الصومال»، لكان صوته حاضرًا، وقلمه مرفوعًا في سماء الرفض والاستنكار. ليس لأن الحدث مفاجئ في جوهره، بل لأنه يندرج ضمن مسار طويل لطالما حذّر منه، وقرأ مآلاته قبل أن تتحول إلى وقائع سياسية وجغرافية.
في لحظات التحول الكبرى، لا تعود بعض الأخبار مجرد وقائع عابرة، بل تتحول إلى وقائع تشير لما هو أعمق وأخطر. الاعتراف الإسرائيلي الأخير لم يكن صادمًا فقط من حيث التوقيت أو الدلالة القانونية، بل لأنه استفز ذاكرتنا العربية المثقلة بتجارب الخلاف والانقسام والتفكيك، وأعاد طرح سؤال قديم بصيغة جديدة: هل ما يجري حالة عابرة، أم حلقة أخرى في مسار يستهدف الجغرافيا قبل السياسة، والدولة قبل النظام؟
منذ عرفت الراحل الكبير كان همه وحدة واستقرار الدول العربية، ولذا قاتل ضد المشروعين، الصفوي والصهيوني، الذين استهدفا وحدة الدول العربية. و في كتاباته المتعددة، ظل يؤكد أن جوهر المشروع الصهيوني في المنطقة لا يقتصر على اغتصاب الأرض الفلسطينية، بل يتغذى على تفتيت المحيط العربي، وإضعاف الكيانات الوطنية، وتحويل الخرائط إلى مساحات رخوة قابلة لإعادة التشكيل وفق موازين القوة لا حقائق التاريخ. وهذا ما تقوله الان الحكومات والشعوب العربية مع استمرار مشاريع التخريب الصفوية الايرانية والصهيونية.
دفاع يوسف مكي عن وحدة الدول العربية لم يكن خطابًا عاطفيًا أو حنينًا رومانسيًا إلى الماضي (nostalgia)، بل موقفًا فكريًا صارمًا يرى في الدولة الوطنية اهم خطوط الدفاع عن الاستقرار، وفي تمزيقها مدخلًا لفوضى طويلة الأمد. ولذلك كتاباته، وفي ضوء ما يحدث حولنا الان، وكأنها كُتبت ليومنا هذا.
في ظل الاحداث الجارية، استعادة سيرته الفكرية ليست استذكارًا لمسار أكاديمي أو استعادة لذكريات مع صديق مُحب نبيل، بل محاولة لفهم رؤية مثقف عربي أدرك مبكرًا أن معركة المنطقة الحقيقية ليست فقط على الأرض، بل على فكرة الدولة ذاتها، وعلى حق الشعوب في البقاء موحدة ومستقرة، بالذات في عالمنا الذي تختل فيه موازين العدالة.. والضحية الضعفاء!
برحيل يوسف مكي، لا تفقد الساحة الثقافية السعودية والعربية كاتب رأي فحسب، بل تخسر نموذجًا نادرًا للمثقف الذي جمع بين الالتزام القومي، والوعي النقدي، والقدرة على التكيّف مع تحولات الزمن دون التفريط في القيم الكبرى. كان من نخبة فكرية ادركت أن الأفكار لا تُقاس ببريقها وبصخبها، بل بقدرتها على الصمود، وأن الدفاع عن الأوطان لا يتناقض مع الإيمان بالعروبة، بل هو أحد معطياتها وتجلياتها الواعية.
ينتمي الراحل إلى جيل عربي تشكّل وعيه في زمن كانت فيه الحركة العربية مشروعًا للتحرر وبناء الدولة الحديثة، قبل أن تصطدم لاحقًا بإخفاقات التجربة السياسية والانقسامات الحادة. في مسيرته الفكرية لم يتخل عن ضرورة صمود الدول العربية امام مشاريع التخريب، وظل يدعم هذا الامر الوجودي مهما خف بريقه وأهميته، وظل يعيد قراءته لتحريره من انحيازات الأيديولوجيا والشعار لكي يربطه بمصالح الشعوب وبمقتضيات الدولة والاستقرار والسيادة.
من المؤسسات التي آمن بدورها وساندها في ظروفها الصعبة (مركز دراسات الوحدة العربية). منذ عرفته وجدت فيه حرص واخلاص لمتابعة ومساندة المركز، وكان يتحمل اغلب مصاريف سفره وسكنه لمتابعة أعماله وحضور مناسباته، رغم ضيق ظروفه المالية. ورتبت له لقاءات مع بعض الأشخاص ليعرض عليهم المساعدة في جهود إنقاذ المركز وحمايته من مشاريع وتوجهات كانت تتربص به وتستهدف الاستحواذ عليه وإعادة توجيهه بعيدا عن قضية الوحدة العربية.
وساعده في مهمة إنقاذ المركز علاقاته المميزة مع النخبة الفكرية والعلمية العربية. لقد كان زميل وصديق الجميع، كان يقف بالوسط بين مختلف التوجهات والأفكار، وهذه الوسطية التي تجمعت من الخبرة والحكمة والصدق مع النفس، ومن سمات الشخصية الاساسية، جلبت له المشاكل والمواقف الصعبة. ولكنه، رحمه الله، كان يواجهها ويستوعبها بالصبر والحكمة مستندا إلى المبادئ والمثل الوطنية والسياسية التي يؤمن بها.
في تقييم من يتابعون جهده الفكري، لا سيما إسهاماته في مركز دراسات الوحدة العربية، يرون ان كتاباته البحثية تقدم نموذجًا لما يمكن تسميته «القومية العقلانية». لم يكن من دعاة الوحدة الاندماجية المتعجلة، ولا من أنصار القطيعة مع الفكرة القومية بحجة فشلها التاريخي، بل آمن بأن العروبة إطار ثقافي وحضاري واسع، لا يتحقق سياسيًا إلا عبر دول وطنية قوية، مستقرة، وقادرة على التعاون والتكامل. وكان يرى أن المأزق العربي لم يكن في الحلم، بل في الأدوات، وفي الخلط بين المثال السياسي والواقع الاجتماعي.
ومن هذا المنطلق، رأيناه يدافع عن بلاده المملكة العربية السعودية انطلاقا من قناعاته وليس من موقفًا ظرفيًا أو ردّ فعل، بل دفاعه خيارًا فكريًا ثابتًا. كان يرى أن السعودية تمثل ركيزة أساسية في النظام العربي، وأن استقرارها عنصر توازن إقليمي لا يمكن تجاهله. وقد اكتسب خطابه مصداقية لدى النخب الفكرية لأنه لم يكن تبريريًا ولا شعاراتيًا، بل تحليليًا يستند إلى الوقائع والتاريخ.
وعكس هذا في مقالاته الصحفية. فقد احتل المقال الصحفي موقعًا مركزيًا في تجربته، خصوصًا عبر كتاباته المنتظمة في جريدة الخليج. لم تكن مقالاته ردود أفعال آنية، بل قراءات معمّقة تحاول فهم ما وراء الحدث وربطه بسياقه التاريخي والسياسي.
اجمل اما سمعته من احد اصدقائه المثقفين حيث يرى ان ما ميّز تجربة يوسف مكي الفكرية هو رفضه الدائم لاستخدام العروبة كأداة إقصاء أو صراع. كان يرى أن أخطر ما أصاب الفكرة القومية هو تحويلها إلى أيديولوجيا صدامية، بدل أن تبقى إطارًا جامعًا للتنوع العربي. لذلك ظل خطابه متزنًا، ناقدًا للذات بقدر ما هو ناقد للآخر، مؤمنًا بأن المثقف الحقيقي هو من يرمم الأفكار والمعاني المشتركة في أزمنة الانقسام.
برحيل يوسف مكي، تخسر الثقافة العربية مفكرًا آمن بأن الكلمة موقف، وبأن الوطنية الصلبة لا تتناقض مع الانتماء العربي، بل تشكّل أحد أعمدته، وان الدولة الوطنية التي تجمع شعبا واحدا، هي خيار الشعوب العربية. رحل وسوف يبقى إرثه الفكري ومواقفه الوطنية حاضرة، تذكّرنا بأن الدفاع عن الدولة ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية.
رحم الله يوسف مكي..
وكما نقول دوما: يرحل الجسد، ويبقى الأثر، وتلك هي علامة المفكرين الكبار.