د. محمد بن أحمد غروي
إدارة مواسم العمرة والحج، هي مسألة تكاد تكون تشغيلية بحتة، تُقاس على سبيل المثال لا الحصر، وفق مؤشرات جداول التفويج أو كفاءة البنية التحتية، إلا أن التحولات الكبيرة التي شهدتها منظومة الحج والعمرة خلال الأعوام الأخيرة، تؤكد علينا بذل مزيد من الاهتمام للوعي والسلوك الفردي، اللذين لا يقلان أهمية عن التنظيم الميداني ذاته، بل إنهما باتا جزءًا أصيلًا من جودة النُسك وتجربة ضيوف الرحمن.
التنوع الواسع في جنسيات المعتمرين والحجاج، واختلاف خلفياتهم الثقافية والمعرفية، يفرضان تحديًا من نوع مختلف؛ لا تعالجه الأنظمة وحدها، فتجربة أداء النُسك تُدار اليوم في بيئة حديثة تعتمد على المسارات، والتنظيم الزمني، والتكامل الرقمي، ما يجعل فهم هذه المنظومة شرطًا أساسيًا لسلامة الضيف وسكينة أدائه.
خلال عام 2025، لفتت تغطيات إعلامية في عدد من الدول المصدِّرة للمعتمرين - خصوصًا في جنوب شرق آسيا- الانتباه إلى فجوة معرفية لدى شريحة من المعتمرين، وبصورة أكثر تحديدًا في الإعلام الإندونيسي، الذي تناول المسألة من زاوية تنظيمية وسلوكية، فصحيفة Kompas نشرت تقريرًا حول ما وصفته بظاهرة «العمرة غير المنظمة»، أشارت فيه إلى افتقار بعض المعتمرين إلى المعرفة الكافية بالإجراءات النظامية والسلوكيات المتوقعة داخل الحرمين الشريفين، الأمر الذي يعرّضهم لمخاطر تنظيمية، ويؤثر في التجربة العامة، ولم يذهب التقرير إلى تحميل جهة بعينها المسؤولية، بقدر ما لفت إلى غياب التوعية المسبقة بوصفه عاملًا مشتركًا في كثير من الإشكالات الميدانية، وفي السياق ذاته، تناولت The Jakarta Post أهمية الإرشاد الديني والتوعوي قبل السفر، مؤكدة أن المعرفة الشعائرية، على أهميتها، ليست كافية وحدها في ظل إدارة حديثة للمواسم تعتمد على المسارات المنظمة، والجداول الزمنية الدقيقة، والتكامل الرقمي بين الجهات المختلفة، وخلصت إلى أن إعداد المعتمر معرفيًا وسلوكيًا قبل وصوله، يضمن سلامة التجربة بنسبة كبيرة.
الملاحظ أن هذه الإشكالات لا تُعبّر عن قصور في المنظومة التنظيمية بقدر ما تعكس فجوة في نقل المعرفة من سياق وزارة الحج والعمرة إلى السياقات الثقافية المختلفة للمعتمرين في بلدانهم، فالمعتمر قد يصل وهو مستعد روحيًا، لكنه غير مهيأ سلوكيًا للتعامل مع منظومة حديثة دقيقة، ما يخلق فجوة بين ما هو متوقع منه، وما هو مدرك له فعليًا.
هنا تبرز أهمية التوعية بوصفها أداة إستراتيجية، من خلال مركز توعية ضيوف الرحمن، وهو أحد أهم التحولات المؤسسية التي تستحق التوقف عندها، وأهمية أن يتجاوز دوره أسلوب التوجيه الموسمي، إلى بناء منظومة توعوية مستدامة ترافق الضيف قبل وصوله، وأثناء أدائه للمناسك، وحتى بعد مغادرته، شريطة مخاطبة الضيف بلغته. وتؤكد التجارب الحديثة أن التوعية المسبقة قبل الوصول هي الأكثر تأثيرًا، فكلما وصلت الرسالة الصحيحة إلى المعتمر أو الحاج في بلده، عبر قنوات موثوقة، وبصيغة مبسطة ومناسبة لخلفيته الثقافية ومستوى تلقيه للمعلومة، انعكس ذلك إيجابًا على سلوكه الميداني، وخفّف الضغط على الجهات التنظيمية، وأسهم في تحسين التجربة العامة.
التحول الأبرز في هذا النموذج هو نقل التوعية من إطار «التعليمات» إلى إطار «التمكين»، فعندما يفهم المعتمر لماذا يُطلب منه الالتزام بمسار معين، أو وقت محدد، أو سلوك معين، يصبح الالتزام نابعًا من قناعة، يتحول الوعي مباشرة إلى قيمة مضافة للتجربة الروحانية.
من هذا المنطلق، فإن التكامل بين مركز توعية ضيوف الرحمن، والمنصات الرقمية المؤثر المدروسة بدقة، والبعثات الرسمية، ووسائل الإعلام في الدول المصدِّرة للمعتمرين، ضرورة إستراتيجية؛ لأن إدارة النُسك تشمل اليوم إدارة السلوك وبناء الوعي المشترك.
في المحصلة، يمكن القول إن اللوائح وحدها لا تضمن لنا نجاح مواسم العمرة والحج، بل من المهم الجمع بين كفاءة التنظيم وعمق التوعية، فالاستثمار في وعي الإنسان هو الطريق الأفضل لتعظيم جودة النُسك، وصون قدسية المكان، وتحقيق تجربة تليق بضيوف الرحمن وبالجهود الكبيرة التي تبذلها المملكة في خدمتهم.