عبدالله صالح المحمود
لم تعد السمعة الوطنية تفصيلًا هامشيًا أو عنصرًا مكملًا في صورة الدول، بل أصبحت اليوم أحد أهم مصادر قوتها، ومؤشرًا يقرأ بعناية مثل مؤشرات النمو والتنافسية والتصنيف الائتماني. فالعالم لم يعد يقيم الدول بما تقوله عن نفسها، بل بما تقدمه من نتائج، وبما تتركه سياساتها واقتصادها من أثر في الوعي الدولي.
ومع هذا التحول، برز سؤال جوهري: كيف تقاس السمعة بوصفها قوة وطنية؟ وما الذي يرصده العالم حين يعيد تقييم موقع الدول في الخارطة الذهنية المعاصرة؟
من الناحية المنطقية، لم يعد بالإمكان التعامل مع السمعة باعتبارها رأيًا عابرًا أو انطباعًا عامًا؛ فقد تطورت المؤشرات الدولية لتقيس مفهومًا مركبًا يجمع الأداء الاقتصادي، ووضوح الرؤية، وثبات القرار، والاستقرار الاجتماعي، والابتكار، والحضور الدولي.
هذا التطور جعل السمعة الوطنية حصيلة لسياسات واضحة وقابلة للقياس، لا مجرد سرديات أو صور دعائية. فالدول التي تمتلك قدرة على الإنجاز، وتقدم مسارًا اقتصاديًا واضحًا، وتظهر التزامًا مستمرًا بالإصلاح والتطوير، تكتسب تلقائيًا موقعًا أعلى في تقييم العالم، لأن المنطق الاقتصادي والدبلوماسي يقف خلف هذه الصورة ويغذيها.
أما من ناحية الأسلوب والإقناع، فقد تغيّر دور الاتصال جذريًا. لم يعد الاتصال مجرد وسيلة لشرح المواقف، بل أصبح إطارًا تفسيريًا يصنع فهم العالم للتحولات الداخلية ويمنحها شرعيتها.
فالدولة التي تملك خطابًا متسقًا مع سياساتها، وتظهر اتساقًا بين القول والفعل، وتقدم رسائل تستند إلى نتائج حقيقية، قادرة على بناء قناعة دولية راسخة، أهم بكثير من أي حملة إعلامية مهما كانت كثيفة. الإقناع اليوم قائم على القدرة على تقديم سردية موحدة تعكس ثقة الدولة بذاتها، وتشرح أهدافها بوضوح، وتظهر أن التحولات ليست ردود فعل، بل مسار استراتيجيً محسوب.
وفي هذا السياق، تصبح الأهمية الراهنة للسمعة الوطنية أوضح من أي وقت مضى. ففي عالم مضطرب، تتقدم الدول التي تظهر استقرارًا في الداخل وقدرة على صناعة الفرص في الخارج. المستثمرون يتجهون إلى البيئات الواضحة، والشركات العالمية تفضل الأسواق التي تقدم رؤية مستقرة، والشركاء الدوليون يميلون إلى الدول التي تثبت قدرتها على إدارة ملفاتها بثقة واتزان. لذلك تتحول السمعة إلى قرار اقتصادي بالنسبة للعالم، وإلى مؤشر سياسي للدول، وإلى عنصر حاسم في حجم تأثيرها ونطاق نفوذها.
ونرى هذا بوضوح في التجربة السعودية الحديثة. فالصورة التي تقدمها المملكة اليوم للعالم لم تبن على حملات دعائية، بل على حقائق ونتائج قابلة للقياس. التحولات الاقتصادية الكبرى، تسارع مشاريع البنية التحتية، توسع القطاعات الجديدة، مع تحديث تشريعي ومنظومات حوكمة أكثر كفاءة، كلها أنتجت صورة جديدة لدولة تستثمر في المستقبل وتبني أدوات تأثيرها على أسس عملية.
وفي المقابل، جاء الاتصال الحكومي متسقًا مع هذه التحولات، ورافعًا لمصداقيتها، ومُظهرًا أن المملكة لا تكتفي بطرح الرؤية، بل تعمل على تحقيقها بخطوات متتابعة وواضحة.
لهذا السبب أصبحت السمعة الوطنية اليوم جزءًا من القوة الشاملة للدولة، وعنصرًا متقدمًا في معادلة التأثير الدولي، وموردًا يعزّز الثقة ويخفض المخاطر ويجذب الاستثمار.
وفي عالم تتغير فيه قواعد النفوذ بسرعة، تتقدم الدول التي تدرك أن صورتها ليست ما يُنقل عنها، بل ما تفرضه من خلال سياساتها وإنجازاتها وقدرتها على التأثير في وعي العالم.