د.عبدالرحيم محمود جاموس
في الأول من يناير، لا تستعيد حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح ذكرى انطلاقتها فحسب، بل تستدعي معها معنى الاستمرارية في زمن الانكسارات، ومعنى الثبات حين تتكاثر محاولات الإلغاء والتشويه.
واحد وستون عامًا مرّت منذ أن أعلنت فتح انحيازها الكامل للشعب الفلسطيني، لا كشعار عابر، بل كخيار تاريخي واعٍ، خاضت فيه غمار النضال الطويل من أجل الحرية، والعودة، وتقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
هذه الذكرى ليست احتفالًا شكليًا، ولا محطة خطابية، بل مناسبة وطنية تستوجب وقفة مراجعة واعتزاز، في آنٍ واحد.
مراجعة مسؤولة لمسار مليء بالتحديات والتحولات القاسية، واعتزاز بدور طليعي لم ينقطع، رغم شراسة العدوان، ورغم حملات التشويه المتعمّدة، ورغم محاولات الطعن في الظهر، الظاهرة منها والمستترة.
منذ انطلاقتها، أدركت فتح أن معركة الفلسطيني ليست قصيرة النفس، وأن الاحتلال لا يُهزم بردّات الفعل، بل بتراكم الفعل الوطني المنظّم، وبالقدرة على الجمع بين المقاومة بمفهومها الشامل، والعمل السياسي، والبناء الوطني، والحضور الدولي.
لذلك لم تكن فتح حركة بندقية فقط، ولا حركة سياسة فقط، بل حركة مشروع وطني جامع، حمل همّ الشعب الفلسطيني في المخيم، وفي الوطن، وفي المنافي، ونجحت في تحويل القضية الفلسطينية من مأساة منسية إلى قضية تحرر وطني معترف بها عالميًا.
وفي زمنٍ تتعاظم فيه الهجمة الإسرائيلية، من إبادة وتدمير وتجويع وحصار، ومن تهويد متسارع للقدس، واستيطان متوحش في الضفة الغربية، ومن محاولات لتصفية القضية عبر القوة أو عبر الفوضى، تواصل فتح تمسّكها بخيار الحكمة دون تفريط، وبخيار الصمود دون مغامرة، وبخيار الوحدة الوطنية دون ارتهان أو إقصاء.
إن ما يميّز حركة فتح، في هذا المنعطف التاريخي بالغ الخطورة، هو قدرتها على العمل في أكثر من ساحة في آنٍ واحد.
فهي تحاصر الاحتلال سياسيًا وقانونيًا في المحافل الدولية، وتدافع عن الرواية الفلسطينية في وجه ماكينة التضليل الإسرائيلية، وتراكم الاعترافات الدولية بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في دولته المستقلة. وفي الوقت ذاته، تواصل معركة البناء الوطني، رغم شحّ الموارد، ورغم الضغوط الهائلة، إيمانًا منها بأن صمود الإنسان الفلسطيني هو خط الدفاع الأول عن المشروع الوطني.
ولا تخطئ فتح حين تؤكد، في كل مناسبة، وفاءها لدرب الشهداء، ليس بوصفهم ذكرى، بل بوصفهم بوصلة أخلاقية وسياسية. فدرب الشهداء هو درب الحرية والعودة والاستقلال، وهو ذاته الدرب الذي يرفض تحويل الدم الفلسطيني إلى أداة في صراعات جانبية، أو ورقة في حسابات إقليمية، أو وسيلة لتكريس الانقسام والخراب.
وفي مواجهة الحاقدين على دورها، والمرتبكين أمام ثباتها، تثبت فتح مرة أخرى أن الرهان على سقوطها رهان خاسر، لأن فتح ليست تنظيمًا عابرًا، بل تعبير حيّ عن وجدان وطني جمعي، وعن تجربة كفاحية تراكمت عبر عقود، وتعلّمت من أخطائها بقدر ما اعتزّت بإنجازاتها.
إن الأمل، في هذا الظرف القاتم، ليس ترفًا خطابيًا، بل ضرورة وطنية. وفتح، بتاريخها ومسؤوليتها، قادرة على أن تكون رافعة هذا الأمل، حين تواصل العمل من أجل إنهاء الانقسام، واستعادة وحدة التمثيل، وتجديد المشروع الوطني على قاعدة الشراكة، والشرعية، والبرنامج السياسي الواضح.
في الذكرى الحادية والستين لانطلاقتها، تؤكد حركة فتح أنها باقية على العهد، ماضية في نضالها الطويل المدى، حتى يذعن الاحتلال لحقوق شعبنا المشروعة، وينهي احتلاله لأرضنا، وتقوم دولتنا الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
وهي، في ذلك، لا تعد بنصر سريع، لكنها تَعِدُ بعدم الاستسلام، ولا بالمكاسب السهلة، لكنها تَعِدُ بالثبات، وبالوفاء، وبمراكمة الإنجاز فوق الإنجاز، حتى تتحقق الغاية.
هذا هو عهد فتح.. وهذا هو معناها، أمس واليوم وغدًا.