رسيني الرسيني
يعمل التأمين على مبدأ أخلاقي رفيع يُعرف بمنتهى حسن النية؛ ذلك العقد غير المكتوب بين المؤمن والمؤمَّن له، حيث تُفصح المعلومات بصدق، وتُقدَّم المطالبات بعدالة، ويُبنى التسعير على الثقة قبل الأرقام. غير أن هذا المبدأ، الذي يُعد حجر الأساس في الصناعة التأمينية، أصبح سببا في تصاعد ممارسات الاحتيال التأميني وتقديم مطالبات غير صحيحة بقصد تحقيق منفعة مالية غير مستحقة. وهنا لا يقتصر الضرر على شركة التأمين فحسب، بل يمتد ليطال جوهر المنظومة بأكملها، حيث تتحول الثقة من قيمة داعمة للنمو إلى ثغرة تستغل، ما يفرض إعادة التفكير في أدوات الحماية، ليس فقط لحماية الشركات، بل لحماية عدالة النظام التأميني ذاته.
لا شك أن الاحتيال التأميني يُعد من أخطر الآفات التي تواجه القطاع، لما له من أثر مباشر على الملاءة المالية لشركات التأمين واستدامتها. فالمطالبات الوهمية أو المبالغ فيها ترفع من حجم التعويضات المدفوعة دون مبرر فني حقيقي، ما يضغط على الاحتياطيات الفنية ورأس المال، ويُضعف القدرة على مواجهة المخاطر الفعلية. والأخطر من ذلك أن تبعات هذه الممارسات لا تتوقف عند حدود الشركات، بل تنتقل إلى العملاء أنفسهم، حيث تُعاد ترجمة الخسائر عبر رفع الأقساط التأمينية على الجميع، دون تمييز بين من التزم بالنزاهة ومن أساء استخدام النظام. وهكذا، يدفع أصحاب السجلات النظيفة ثمن سلوكيات قلة بسبب اختلال واضح لمبدأ منتهى حسن النية.
من هنا تبرز فكرة إنشاء قائمة سوداء للمحتالين كحل عملي ومتوازن، يوثق فيه الحالات التي ثبت -بشكل نظامي وقانوني- تورطها في عمليات احتيال، بحيث تُدار هذه القائمة من خلال قاعدة بيانات مشتركة بين جميع الشركات العاملة في السوق، بما يضمن تبادل المعلومات وفق أطر تنظيمية واضحة تحفظ الخصوصية والحقوق. وبهذا الأسلوب، لا يُعاقَب السوق بأكمله، بل يُعاد توجيه التسعير ليعكس السلوك الحقيقي لطالب التأمين؛ فيُفرض قسط أعلى على المخالف، بينما يستفيد أصحاب السجلات النظيفة من تسعير عادل يعكس انخفاض مخاطرهم، فيتحقق التوازن بين الحماية والانصاف.
اقتصاديًا، تمثل هذه الفكرة أداة فعّالة لخفض الخسائر على شركات التأمين، وتحسين كفاءة التسعير، وتعزيز استدامة القطاع على المدى الطويل. فربط القسط بالسلوك يعيد توزيع المخاطر بصورة أكثر دقة. أما من المنظور السلوكي، فإن وجود قائمة سوداء معلنة الإطار والآثار يشكّل رادعًا قويًا، حيث يدرك الأفراد أن الاحتيال لن يمر دون تكلفة مستقبلية. هذا الوعي يُغيّر أنماط السلوك، ويحد من تكرار المخالفات، إذ سيعمل المخالفين على الانضباط لإسقاط أسماؤهم عن هذه القائمة. كما أن وجود القائمة سيعزز من ثقافة الالتزام والشفافية، وسيعكس التسعير العادل لطالبي التأمين بما يتوافق مع واقع سجلاتهم التأمينية.
حسنًا، ثم ماذا؟
وفق النظام، يستحق طالب التأمين خصم عدم وجود مطالبات لمنتج المركبات بنسبة قد تصل إلى أكثر من 50 %، إلا أن ارتفاع الأسعار بين سنة وأخرى بسبب أداء محفظة العملاء كافة، قد تبقي القيمة الحقيقة التي يدفعها طالب التأمين مرتفعة حتى بعد الخصم، وبالتالي تمييز أصحاب السجلات النظيفة في أصل التسعير يبدو أكثر عدالة.