د. داليا عبدالله العمر
لم يعد العمل الخيري في زمننا الحديث فعلًا عشوائيًا أو أداءً طارئًا لاحتياج آني أو ظرف لحظي، فالمساعدات المؤقتة مهما بلغ أثرها تظل مؤقتة. بل أصبح العمل الخيري الأكثر نضجًا مشروعًا إنسانيًا وتنمويًا يعيد صياغة علاقة الإنسان بذاته وبمجتمعه وبقدراته الكامنة، ويمنحه فرصة حقيقية لاستعادة توازنه والمشاركة في صناعة مستقبله، عن طريق اكتشاف مهاراته المعطلة أو قدراته غير المكتشفة.
وفي هذا الإطار، تبرز جمعية بنيان للخدمات الاجتماعية كنموذج سعودي واعٍ، استطاع أن ينقل العمل الخيري من منطق «العطاء المؤقت» إلى رحاب «التمكين المستدام»، ومن صورة المستفيد المتلقي إلى الإنسان الشريك في التنمية. فمن يكون في وضع صعب اقتصاديًا أو اجتماعيًا يجب أن يُمكَّن عبر برامج مختلفة تساعده على النهوض بذاته بدفعة مدروسة.
وخلال زيارتي الميدانية للجمعية، واطلاعي المكثف والوافي على أعمالها وبرامجها ومساراتها، بدا واضحًا أن ما تقدمه بنيان لا يمكن حصره في مبادرات منفصلة أو أنشطة موسمية أو مساعدات طارئة فقط، كما هو حال العمل الخيري التقليدي المعتاد، بل هو عمل مؤسسي متكامل يقوم على فهم عميق للواقع الاجتماعي، وعلى قراءة واعية للتحديات التي تواجه الأفراد والأسر، ويعمل على معالجتها من جذورها، لا الاكتفاء بتخفيف آثارها أو معالجة ما يطفو على السطح منها.
فكل برنامج، وكل مسار، وكل مبادرة، يأتي ضمن رؤية شاملة تهدف إلى تمكين المستفيد من تأسيس نفسه وبناء حياة أكثر استقرارًا على المستويات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وصولًا إلى الاستقلال المالي عبر قدرات يمتلكها، وتساعده الجمعية على اكتشافها وبلورتها بما يعود عليه بالنفع المستدام، ويفتح له أبواب طلب الرزق بمهاراته، لا بمساعدات وعطايا فقط.
ما يميز تجربة بنيان هو هذا التنوع المدروس في المسارات التنموية التي تتعامل مع الإنسان بوصفه كيانًا متكاملًا، لا حالة اجتماعية مجتزأة. فمن خلال مسار «بناء ونماء» يُعاد تعريف مفهوم العطاء ليصبح علاقة متبادلة، يشعر فيها المستفيد بأن ما يتلقاه اليوم ليس نهاية الطريق، بل بدايته، وأنه جزء من منظومة قيمية تقوم على التكافل والمسؤولية المشتركة. هذا المسار لا يرسخ شعور الامتنان فحسب، بل يبني وعيًا أعمق بأن النمو الشخصي لا ينفصل عن العطاء المجتمعي، وأن الاستقرار الحقيقي يبدأ حين يدرك الإنسان قيمته ودوره. وقد قال الله تعالى في محكم تنزيله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}؛ فالإنسان في جوهره مخزون من القدرات، لا يحتاج إلا إلى من يقرأه قراءة صحيحة ويوجهه التوجيه السليم.
ويأتي مسار «سعادتي في قيمي» ليعالج جانبًا غالبًا ما يُغفل في العمل الاجتماعي، وهو الجانب النفسي والوجداني. فهذا المسار يعمل على ترميم العلاقة بين الإنسان وقيمته الذاتية والأسرية، ومساعدته على تجاوز مشاعر الإحباط أو الاستسلام وما شابهها، وتحسين التواصل بين أفراد العائلة، وإعادة بناء ثقته بنفسه، ومعالجة آثار التجارب القاسية التي قد تترك جراحًا غير مرئية لكنها عميقة الأثر.
وفي هذا الجانب تتجلى إنسانية بنيان بوضوح، إذ لا ترى أن التمكين الاقتصادي ممكن دون تمكين نفسي يسبقه، ولا أن الاستقلال المادي يمكن أن يتحقق في ظل إنسان منكسر من الداخل.
ويتكامل مع ذلك مسار «عيشيها صح»، الذي يركز على جودة الحياة ونمطها اليومي، كما يركز على تعزيز الجانب المعرفي لاكتشاف وتطوير المهارات لتوفير مصادر دخل للفتيات، وبناء ممارسات بسيطة لكنها مؤثرة تساعد المستفيد على الاستقرار والاستمرارية. وهو مسار ينسجم بوضوح مع حضور الجمعية في منصاتها الرقمية، حيث تطغى لغة التوعية والعناية بالإنسان، وربط الصحة بالسلوك اليومي والاختيارات الصغيرة التي تصنع فارقًا حقيقيًا في حياة الفرد والأسرة..
أما مسار «أنا قائد»، فيمثل انتقالًا نوعيًا من فكرة التطوير التقليدي إلى بناء شخصية قادرة على القيادة. ففي هذا المسار يُمنح المستفيد أدوات التفكير واتخاذ القرار والعمل الجماعي، ليكون قائدًا في أسرته، وفي محيطه، وفي مجتمعه. فالقيادة هنا ليست منصبًا أو لقبًا، بل ممارسة يومية تبدأ من احترام الذات، وتنتهي بالمشاركة الواعية والفاعلة في الشأن العام..
تقدم الجمعية برامج تنموية تهدف إلى تطوير المهارات وبناء وتعزيز القدرات والقيم، من خلال ورش عمل وبرامج تدريبية تُعنى بالشباب والفتيات، وتساعدهم على اكتشاف قدراتهم وصقل مهاراتهم، وتعزيز التكافل الاجتماعي والانتماء للوطن. وهي برامج لا تُقدَّم بأسلوب تلقيني جامد، بل بطريقة تفاعلية تضع المستفيد في قلب التجربة، وتشجعه على التفكير والمبادرة، وتمنحه شعورًا حقيقيًا بأنه جزء من الحل.
وفي إطار التمكين الاجتماعي، تعمل الجمعية كذلك على برامج تُعنى بدعم التعليم، ومساندة الأسر، وفتح آفاق جديدة للاستقرار.
فالتعليم هنا يُنظر إليه بوصفه استثمارًا طويل الأمد في الإنسان، لا مجرد شهادة، ويتم دعمه بما يعزز الاستمرارية والقدرة على التقدم. كما تهتم الجمعية بتطوير الأسر وتعزيز دورها في المجتمع، من خلال مبادرات تُعنى بالاستقرار الأسري وبناء الوعي، وتقديم الدعم بأسلوب يحفظ الكرامة ويعزز الاعتماد على الذات.
أما مشاريع الاستثمار الاجتماعي، فهي تمثل أحد أكثر جوانب تجربة بنيان نضجًا ووعيًا. فالجمعية لا تكتفي بالدعم الاستهلاكي، بل تسعى إلى خلق مشاريع إنتاجية تفتح أبواب الدخل، وتمنح المستفيد فرص تمكين حقيقية للمشاركة في النشاط الاقتصادي. وخلال زيارتي، اطلعت على عدد من هذه المشاريع التي تعكس فهمًا متقدمًا لدور العمل الخيري في تحريك عجلة الاقتصاد الاجتماعي، وتحويل المهارات إلى فرص حقيقية.
ومن بين هذه المشاريع، تبرز المبادرات التدريبية التي تستهدف فئات مختلفة، وتفتح أمامهم مجالات عمل متنوعة، سواء في الحرف اليدوية أو الصناعات المنزلية أو المشاريع الصغيرة. وقد شملت هذه المبادرات برامج في الخياطة والتطريز، حيث لا يقتصر الدور على تعليم المهارة، بل يمتد إلى تأهيل المستفيد للدخول إلى السوق بثقة وقدرة على الإنتاج.
كما زرت مطبخ الجمعية، الذي يمثل نموذجًا حيًا لكيف يمكن تحويل مساحة عمل إلى بيئة تدريب وتأهيل، تُعلِّم الانضباط والعمل الجماعي وتحمل المسؤولية، إلى جانب إتاحة فرص دخل حقيقية عبر برامج تدريبية وتسويقية في مجال المأكولات والطهي.
وتبرز كذلك مشاريع تهدف إلى تدريب الأسر المنتجة ودعم مشاريعهم ماليًا وربطها بالأسواق والمعارض، بما يسهم في تحويل الجهد المنزلي إلى مصدر دخل مستدام، ويعزز الشعور بالاندماج الاجتماعي والثقة بالنفس، وهي فلسفة تتكرر في الخطاب الإعلامي للجمعية، حيث يُنظر إلى المستفيد بوصفه طاقة كامنة لا عبئًا اجتماعيًا.
كما تعمل الجمعية على مبادرات توعوية واجتماعية تستهدف مختلف فئات المجتمع، وتعالج قضايا اجتماعية مهمة، من خلال محاضرات وورش عمل وبرامج توعوية تُقدَّم بأسلوب يحترم عقل المستفيد، ويشركه في الحل لا في المشكلة.
ويظهر هذا التوجه بوضوح في محتوى الجمعية عبر منصة «إكس»، حيث تحضر لغة القيم والرسائل الإنسانية، والتفاعل مع المجتمع في المناسبات المختلفة، بما يعكس حضورًا حيًا ومتصلًا بالناس.
وما خرجتُ به من زيارتي لجمعية بنيان هو أنها لا تعمل بمنطق «إعطاء ما تيسّر»، بل بمنطق «بناء ما يلزم»، عبر تطوير الإنسان ودفعه نحو النجاح. فهي تعمل على الإنسان قبل أن تعمل على الأرقام، وتؤمن بأن التحول الحقيقي يبدأ حين يشعر المستفيد بأنه جزء من الحل.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى مساندة القطاع الحكومي، ودعم القطاع الخاص، ورجال وسيدات الأعمال، والمهتمين بالشأن الاجتماعي لدعم هذه التجربة والمساهمة في دفع عجلة هذا النموذج التنموي. فدعم بنيان لا يعني تمويل حالة فحسب، بل الاستثمار في منظومة قادرة على تحويل العمل الخيري من حالة تلقٍّ إلى حالة مشاركة، ومن دعم مؤقت إلى أثر طويل الأمد.
والأهم أن هذا الكيان تقوده سيدات يقدمن من أوقاتهن وجهودهن وخبراتهن الكثير لخدمة المجتمع، ومن الإنصاف أن يجدن دعمًا حقيقيًا، لا بالتمويل فقط، بل بالشراكات المؤسسية والفردية، والمشاركة بالتطوع، وتبني المشاريع، والمساندة الإعلامية، وتوفير الفرص التي تجعل المستفيد ينتقل من محتاج إلى مساهم، ومن متلقٍ إلى منتج.
ختامًا، تمضي جمعية بنيان للخدمات الاجتماعية بخطى واثقة نحو إعادة تعريف العمل الخيري بوصفه مشروعًا إنسانيًا تنمويًا متكاملًا، يبدأ بفهم الإنسان، ويمر ببناء قدراته، وينتهي بمشاركته الفاعلة في مجتمعه. وهي تجربة تستحق أن تُروى، وأن تُدعم، وأن تُمنح المساحة الكافية لتواصل دورها في صناعة التغيير الاجتماعي الحقيقي.