الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 1st May,2006 العدد : 151

الأثنين 3 ,ربيع الثاني 1427

مسلمون في أعمال هاينه

* سعد البازعي:
أشرت في مقالة الأسبوع الماضي إلى أنني سأتناول كيفية توظيف الشاعر الألماني هاينريش هاينه للمسلمين والإسلام في بعض قصائده. وأود الإشارة في بدء عرضي لذلك التوظيف إلى أننا نتحدث عن سياق طويل ومتشعب المنافذ والاتجاهات.
فالمسلمون في الثقافات الأوروبية إجمالاً حاضرون حضوراً بارزاً وعميق الدلالات يبتعد بنا زمنياً إلى مطلع العصور الوسطى وفي تزامن واضح مع بدء الحروب الصليبية حين بدأت الحكايات تترى عن المسلمين في المخيال الشعبي الأوروبي، وتصورهم صوراً شتى يغلب عليها النمطية والسلبية معاً. فالمسلمون في الغالب إما (وثنيين) أو أتباع ديانة مارقة عن المسيحية، أو مجرد (كفار)، وأسماؤهم تتفاوت بين (محمديين) أو (سراسين) أو غير ذلك، ما نجد الإشارات إليه في أمكنة وأزمنة مختلفة، كما في نصوص تاريخية وأدبية كثيرة.
ولعل الإشارات الأشهر في هذا السياق هي ما نجد في (الكوميديا الإلهية) لدانتي في القرن الثالث عشر، إذ نجد شخصيات دينية إسلامية (الرسول عليه الصلاة والسلام) أو فلسفية: ابن رشد وابن سينا، أو عسكرية سياسية: (صلاح الدين الأيوبي). وتلك كلها، فيما عدا الإشارة إلى صلاح الدين، سلبية بمقادير مختلفة.
في العصور التالية كان من الطبعي أن تتغير تلك الصور تغيراً جذرياً بتغير الأوروبيين وانفتاحهم وتعرفهم على العالم، علماً أن بقايا من التصوير النمطي والسلبي ظل قائماً.
ففي القرنين الثامن والتاسع عشر جاء التنوير ليغير الكثير من موقف الأوروبيين، وينشر صوراً محايدة أو فانتازية تؤطر المسلمين والعرب ضمن أطر رومانسية أو حالمة، لكنها تجنح أحياناً إلى السلبية.
ومن يقرأ كتاباً وشعراء مثل الدكتور جونسون ووردزورث وشيلي في إنجلترا، وجيراردي نرفال ولامارتين في فرنسا، ونوفاليس في ألمانيا، وبوشكين في روسيا، وغيرهم، سيجد الكثير من الحضور العربي الإسلامي.
غير أن الاسم الأهم ربما في تلك الحقبة يظل الألماني غوته صاحب العمل الشهير (الديوان الشرقي للشاعر الغربي) الذي صدر أواخر القرن الثامن عشر، وكان لصدوره أثر كبير في تغيير النظرة إلى الثقافة العربية الإسلامية، كما إلى الشرق إجمالاً.
ومع ذلك فإن الصورة، على الرغم من تأثير غوته، لم تنقلب رأساً على عقب لتلبس العرب أو المسلمين زياً متألقاً بالانبهار أو الإعجاب. فقد ظلت التصورات مختلفة تجنح حيناً إلى السلبي وحيناً آخر إلى الإيجابي، وكان دور غوته في تعميق هذا الجانب الأخير.
تناول هاينه للمسلمين يأتي ضمن هذا السياق الضخم والمتأرجح ليكتسب دلالاته الخاصة ولا سيما أننا نتحدث عن شاعر أوروبي ولكن من خلفية يهودية بكل ما تحمله تلك الخلفية من ملابسات ومشكلات واختلاف.
فحين ينظر شاعر عانى الكثير من الاحتقار في محيطه الأوروبي المسيحي إلى المسلمين، ينبغي أن نتوقع نظرة مختلفة عن نظرة غيره من الشعراء، ليس من زاوية القيمة، أو زاوية الإيجابية والسلبية فحسب، وإنما أيضاً من زاوية الصورة نفسها والدور الذي جاءت لتلعبه.
ففي عملين منفصلين، أحدهما قصيدة والآخر مسرحية، نجد شخصية عربية إسلامية تلعب دوراً محورياً هي شخصية المنصور بن أبي عامر الحاكم والقائد الأندلسي الذي عاش في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي.
في المسرحية نجد هاينه يبرز المنصور بوصفه بطلاً مسلماً يتحول إلى مسيحي، بيد أن المهم هنا ليس في التحول بحد ذاته، وإنما أيضاً في كيفية التحول، إذ في تلك الكيفية يكمن الفرق بين الشاعر الألماني - اليهودي، وبين غيره من الكتاب الأوروبيين الذين تحدثوا عن الشخصية نفسها، ولا سيما الشاعر والمسرحي الإنجليزي درايدن الذي نشر في النصف الثاني من القرن السابع عشر مسرحية بعنوان (فتح غرناطة على يد الأسبان) صور فيها المنصور بطلاً مسلماً يتبين أنه في حقيقة الأمر مسيحي بالولادة، أي أنه بطل مسيحي أصلاً، ولكنه ضل طريقه إلى المسلمين، وهو اكتشاف عجائبي قصد منه الإعلاء من شأن النصرانية على حساب الإسلام. في مقابل ذلك نجد في مسرحية هاينه أن المنصور يتحول إلى المسيحية مرغماً، أي تحت ضغط الكنيسة المسيحية. ولا شك أن الفرق المهم هنا يكمن في أن هاينه أراد من المنصور أن يعكس وضعه هو، أي هاينه، ووضع كثير من اليهود في أوروبا طوال قرون، إذ كانوا يرغمون ? مثلما كان المسلمون في أسبانيا كما هو معروف ? على التنصر.
المنصور بتعبير آخر يصير أنموذجاً رمزياً لهاينه نفسه ولليهود، ومع أن الربط قد لا يكون تماماً ما يتطلع إليه المسلم، أو ما سيعده ربطاً رائعاً، فإن النظرة التاريخية ستبين أن ما فعله هاينه أفضل بكثير مما فعله المسرحي الإنجليزي.
فبدلاً من سلب المسلمين بطلاً من أبطالهم، ونفي البطولة والنبل عنهم ضمناً، يبقي هاينه على هوية المنصور الحقيقية، أي الإسلامية، ليجعله رمزاً للمعاناة.. يشير إلى طغيان النصارى الأسبان.
فنحن إذاً إزاء حالة عجيبة من الان سجام بين يهودي ومسلم وجدا نفسيهما في مواجهة عدو مشترك هو العدو المسيحي أو النصراني، آخذين بالطبع البعد الخيالي والتوظيف الفني بالاعتبار، وإلا فالمنصور بن أبي عامر لم يكن في وضع يشبه ما وضعه فيه الكاتبان الأوروبيان، لكنه من الشخصيات الاستثنائية في تاريخ التوظيف الأدبي الأوروبي للمسلمين، ولا يشبهه في ذلك سوى صلاح الدين الأيوبي الذي حيكت حوله قصص أوروبية مشابهة كثيرة في فترات مختلفة ولا سيما في العصور الوسطى.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved