الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 1st May,2006 العدد : 151

الأثنين 3 ,ربيع الثاني 1427

اعترافات العلماء في سيرهم الذاتية
الشيخ الطنطاوي نموذجاً «4»

*أحمد علي آل مريع:
إنه ليغيب عنا ونحن نقرأ ذلك النص الاعترافي الإحساس بأن الكاتب يُجرِّد ذاته فيكشف لنا شيئاً من تقلبات الطريق وتعرجاته، التي كادت تخطفه من طريق الكلمة الطيبة إلى ما هو أدنى وأوهى، لأن الكاتب قد ألبسه ثوب الحَمْد للَّه والتحدث بنعمة التوفيق والهداية. إن الاعتراف هنا كما هو في غيره من نصوص الذكريات ليس للضعف ولا للتمدح، ولا لعرض الذّات عارية من لباس التجمل والتستر، ولكنه استثمار للنقص في التقويم والتصحيح.
وقد يصل الاعتراف إلى جوانب خفيّة جداً من الشخصية ومحرجة لها، لأنها تمس سلوكيات ومشاعر في فترة بائدة من حياة الإنسان لها خصائصها وتكوينها الجسدي والنفسي. وأعني به الجانب العاطفي والوجداني والجنسي أيضاً. وهذا الجانب ولا سيما الأخير منه غريزة إنسانية اعترف بها الإسلام وسعى إلى تهذيبها والرقي بها. فكيف عرض لنا الطنطاوي مثل هذا الجانب الحساس جداً من اعترافاته؟!
لقد جاءت اعترافاته في هذا الصدد على درجة كبيرة من الجرأة التي لا يخالطها جلافة أو تمجيد للذات في ضعفها، أو مبالغة في إثارة القارئ بما يحشده من صور تستثير الغرائز، وتُغَيِّبُ الإحساس بالخطيئة، مع الالتزام بالصدق والواقعية. ولا شك أن المواءمة بين الجانبين مهمة صعبة لا يجيدها إلا الكاتب ذو نفس برئت وجهتها من كل هوى وغرض فلا تحس إلا الإحساس النبيل الفاضل، ولذلك يجيء تعبيرها عن هذا الإحساس بريئاً من مثالب الانحدار. وسوف أعرض نماذج ثلاثة في هذا الجانب مستشهداً بما كتبه الطنطاوي حتى يكون ذلك أبلغ في الدلالة والوضوح.
1- النموذج الأول:
(أُقرُّ أن سفري إلى مصر (1927م) على رغم أنها بلد الأزهر، ومثابة العلماء، وأن إقامتي فيها كانت قصيرة، وكانت في وسط إسلامي، أنها على هذا كلّه كادت تفتنني وتبدّل سلوكي؛ فليتق اللَّه الذين يبعثون بأولادهم إلى بلاد لا يسمع فيها أذان، ولا يتلى قرآن، وفي نفوسهم ظمأ قاتل، وحولهم أنواع البارد (المسموم) من حلو الشراب. وإذا كنتُ أنا الناشئ في بيت العلم والدين كدتُ أفسد في مصر وأنا ابن عشرين، فماذا تكون حال من يذهب في مثل تلك السن إلى أوروبا أو أمريكا أو روسيا؟!).
والإقرار هنا يتجه إلى المُنَاصَحة ويتخذ من التجربة الشخصية وسيلة لحفز القرّاء وحملهم على الحذر من الإقدام على بعث أولادهم إلى بلاد تنتشر فيها الإباحية من غير رقيب أو موجِّه؛ لذلك لا يهتم بالاعتراف كثيراً من حيث هو (كشف) للموقف و(إفضاء) بخباياه، ولا من حيث هو (صراع) بين رغبتين دنيا وعليا كل واحدة منهما تجرّه إليها.
2- النموذج الثاني:
جاء على شيء من التفصيل، فذكرت فيه الحادثة والأسماء وتحدد فيه المكان، ولكن غابت فيه القدرة على رسم الصراع. والنص الذي اختاره هنا يصف موقفاً للطنطاوي مع ممرضة جميلة كانت تباشر العناية به، وهو طريح في (المستشفى الفرنسي) بدمشق، وأترك للكاتب وصف الموقف بنفسه:
(أخذتُ أوسع غرفة مشرقة، واشترطت عليهم أن يزورني من يشاء متى شاء. وكان في هذه الغرفة مدخل شبه خاص يفضي إلى الشارع. وكانت الممرضة بنتاً لطيفة حلوة، ما كان لي من حلاوتها وجمالها إلا ما كان يغني به محمد بن عبدالوهاب عن القمر قديماً:
والنَّظر راح يرضي مين حظنا منه النظر
أرضاني أنا، لا لأن نفسي تقنع به، بل لأنها لا تستطيع الوصول إلى أكثر منه. ولولا نشأتي الإسلامية القويّة، ولولا حفظ اللَّه لي لكان لي معها أكثر من النظر والحديث. فقد كانت جميلة لطيفة وكنت شابّاً قويّاً، وإن لم أكن جميلاً فلستُ قبيحاً. وأحسب لو أنني فتحتُ لها الطريق لالتقينا على ما لا يرضي اللَّه).
والصراعُ -على الرغم من الجرأة والصراحة- مفقود تماماً، وهو عنصر مهم جداً لأنه -إن وُجد- يرشدنا أكثر إلى طبيعة الموقف ويلفتنا إلى مواطن التحدي، ويشعرنا بصعوبة المقاومة والتمنّع، وما بذله الكاتب في سبيل ذلك من جهد وعناء، ويجعل منا -دون شعور- شركاء الكاتب نعيش موقفه، ونحس بإحساسه، وندنو بدنوّه من الخطر، وننجو منه كما نجا. وفي عمق الصراع تظهر إنسانية الكاتب وما يعتمل في داخله من مشاعر وأحاسيس فتزداد رغبتنا في القراءة والاطلاع ونزداد أيضاً شوقاً كلما أوغلنا بأحاسيسنا وراء تجربته الإنسانية. والكاتب -فيما يبدو- قد شعر بضعف عنصر الصراع في النص، مما جعله يستعيض عنه بإبراز دواعي الركون إلى هوى النفس والاستجابة لشهواتها، وتتمثل في غياب الموانع، وتوافر الدّوافع؛ فتوقد الشباب، وجموح الشهوة، ونضارة الخِلْقة، وقابلية المكان (الغرفة المنعزلة - المخرج المنعزل المؤدي إلى الشارع غير المدخل الرئيسي الذي يصلها بسائر المستشفى) وجمال الممرضة ولطافتها وميلها إلى الكاتب، كل ذلك مما يحرض على مسايرة الرغبة التي تنطوي عليها النفس وتؤججها كلما خمد أوارها. وكأنما يريد بذلك أن يترك الصراع يعتمل خارج حدود النص، وبعيداً عن أدواته اللغوية، أعني: في نفس القارئ الذي لا تخونه الفطنة في تفهم الموقف والتقاط هذه الدقائق المنثورة عن تعمّد ووعي.
ويظهر أن ضعف الصراع في الاعترافات المتصلة بالجانب الوجداني والعاطفة ملمح عام في جميع الاعترافات التي تندرج ضمن هذا الاتجاه، وإن تفاوتت من حيث وجوده أو عدمه. ولا يكاد يخرج عن ذلك إلا نماذج بسيطة جداً لا تخرق القاعدة، حرصت على أن أعرض نموذجاً لها بعد قليل، وبرغم ذلك فهو صراع أقل مما يستحقه الموقف ويتطلبه. ولعل السبب في ذلك يعود إلى تحرج الكاتب من الإغراق في عرض حالته الوجدانية أو النفسية، وخشيته أن يفهم منه ذلك خطأ، ولا سيما أنه لا يكتب (لكتاب) لا يقرأه إلا الخاصة، ولكنّه يكتب (لصحيفة) سيارة تدخل كل بيت ويقرأها العامي والخاصي والعالم والجاهل، والرجل والمرأة والشاب والمراهق والشيخ الكبير، أو لأنه بات (يستهجن) الحديث في مثل هذا الموضوع بعد أن بلغ هذه السن المتقدمِّة. وهو ما حاول أن يفصح عنه في النموذج الثالث.
....................................................................يتبع
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved