الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 1st May,2006 العدد : 151

الأثنين 3 ,ربيع الثاني 1427

التراث العلمي

*د.سلطان سعد القحطاني:
تحدثنا في الحلقة الماضية عن جهود المستشرقين في تحقيق التراث العربي من مصادره الأساسية في الوطن العربي، ولم تكن هذه الجهود قد جاءت من فراغ، فأوروبا عندما أرادت أن تنهض لم تجد مقومات الحضارة الحديثة مكتملة في ثقافتها، فجندت أصحاب المواهب العلمية واللغوية والفنية ليؤسسوا لها أرضية ثقافية شاملة تستطيع أن تقوم عليها حضارتها الحديثة، ولم تجد بدا من غزو البلاد العربية الإسلامية ذات الكنوز العلمية المحبوسة في خزانات الكتب التي بقي منها القليل وتلف منها الكثير، ولولا وجود الكثير من الباقي في دور الخزن التركية والعربية، وما كان يحتفظ به بعض الناس في منازلهم، أما أن تكون عائلة المؤلف، أو بعض هواة جمع المخطوطات، ودروسها دراسة علمية، عادت إلينا ببعض الفائدة، والبعض الآخر ما نزال ننتظر من يحققه لنا، أما الجانب الذي عاد إلينا بالفائدة، فهو الجانب النظري، نقله المستشرقون باللغة العربية، إضافة إلى ظهور طبقة المحققين العرب، الذين اكتسبوا هذا العلم من المستشرقين أنفسهم، مع بداية النهضة العربية في القرن العشرين الميلادي، وبرع في هذا الحقل عدد من المحققين دخلوا هذا الحقل من أوسع أبوابه، مثل عبدالسلام محمد هارون، وشوقي ضيف، ومحمد محيي الدين عبدالحميد، وحمد الجاسر، وغيرهم الكثير من المحققين من الجيل الأول في النهضة العربية، لكنهم برعوا من خلال الدراسات اللغوية والأدبية والفقهية والمعاجم، وحتى هذا الجيل انقرض ولم يأت من بعده من يجيد هذه الصناعة المهمة في إحياء التراث.
أما الجانب الثاني، وهو الجانب العلمي البحت، فلم يبرع فيه أحد من المحققين، وإذا أردنا أن نلتمس لهم العذر فسنجده ساري المفعول قبل عقود قليلة من الزمن، أما الآن فلا عذر لهم، فقد خرّجت الجامعات عدداً من الباحثين في المجال العلمي بصفة عامة، درسوا في الجامعات الغربية وتتلمذوا على أيدي عدد من العلماء والباحثين في المناهج العلمية العربية القديمة وطوروها وأضافوا إليها مكتشفاتهم العلمية، فأين هؤلاء من تحقيق هذه الكنوز العلمية، وخاصة منها الطبية؟!! لقد حقق المستشرقون كتب العرب الطبية كلها، إلى اللاتينية وثم الإنجليزية وبقية اللغات الأوروبية، ونحن بأمس الحاجة إلى هذه المؤلفات الصادرة من ثقافتنا قبل غيرها، لتصدر من مراكزنا البحثية في الجامعات بأسلوب سهل في متناول الجميع، كما كانت انطلاقة المستشرقين من خلال الجامعات ومراكز البحوث العلمية، والمنهج الاستشراقي كان سبباً في تغريب العقل العربي عن ثقافته، فلم يحصل التواصل الفكري بين العقل العربي ومنتجه العلمي، فالعقل العربي يظن أن كل هذه المعطيات الحضارية الحديثة قد قدمت بفعل أوروبي خالص، لأنه لم يطلع على الفعل العربي في التراث، ولم يقدم له بالطريقة التي قدمها الغرب في حداثته، ولنأخذ مثالا واحدا على هذا التغريب من خلال كتاب من أهم المؤلفات الطبية في القرن الرابع الهجري، ما بين الأندلس، في الغرب، وبغداد في الشرق، ففي الأندلس لم يظهر كتاب في الطب، بصفة عامة، ولا في الصيدلة بصفة خاصة قبل كتاب أبي القاسم الزهراوي (التصريف لمن عجز عن التأليف) وهو كتاب ينافس كتب زملاءه في الشرق (القانون) لابن سيناء، و(الحاوي) للرازي، وهذه الكتب نقلت إلى أوروبا في أول الحملات الصليبية لتترجم فور وصولها، ومن ثم قامت عليها الثقافة الطبية الأوروبية، ولم يقتصر العلماء على مادتها العلمية، بل طوروها بأدواتهم الحديثة وبنوا عليها مخترعات جديدة.
ونود الحديث عن كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوي، وكيف غاب هذا الكتاب وأمثاله عن مشهدنا الثقافي، ولا أعني أنه غائب عن الوجود في المكتبات العامة، وعند بعض المتخصصين، لكني أعني غيابه عن المشهد الثقافي العام، فالكتاب يتحدث عن علم الصيدلة والتشريح، فلم يعرف هذا العلم في أوروبا قبل أن يصدر هذا الكتاب في الأندلس في القرن الحادي عشر الميلادي، وبما أنه موجود ولدينا اليوم من العلماء الصيادلة عدد كبير تخرج في الجامعات الأوروبية والأمريكية، ولديهم القدرة على شرحه وتبسيطه لكل القراء، على مختلف قدرهم العلمي، فقد وجب عليهم أن يقوموا بهذا العمل لحاجة المجتمع إليه، من ناحية، ولقطع الطريق أمام الداجلين والمتعالمين في التطبيب، الذين جلبوا الأمراض المستعصية من خلال ما يقدمونه للمرضى البسطاء.
هذا من جانب، أما من جانب آخر، فقد حان الوقت ليكون لنا نظرية طبية، من خلال هذا المنهج المتقدم في علم الطب، نقد هذه النظرية نقداً علمياً بهدف تطويرها، وتحديث ما فيها من معلومات قيمة، فالوصفات التي قدمها الزهراوي من حيث التركيب والتحضير والجرعة ومعالجة الآثار الجانبية واستبدال المقادير والعقاقير ببعضها البعض تدل على عبقرية فذة استطاعت أن تصل إلى العالمية وتدخل في تطوير الطب والصيدلة في أوروبا في عصر النهضة، حيث بقي الاهتمام به قائماً حتى اليوم.
لقد شغلنا بتتبع النظريات الغربية منذ ظهورها وتركنا ما لدينا من تراث ضخم هو عماد النهضة الأوروبية، فلم نلتفت إلى النقد الأدبي العربي ولا إلى النظريات العلمية لنبني عليها مشروع نظرية عربية جديدة، بالاستفادة من المعطيات الغربية الحديثة، ونقوم بتحديثها حيناً، وحيناً آخر نؤدبها حسب الثقافة العربية الإسلامية، فالمعروف أن العلم مشاع بين الأمم، والحكمة ضالة المؤمن، وهو أحق بها أنّى وجدها، فنحن أحق بهذه العلوم، إما بتطويرها، إذا كانت من تراثنا، أو بتأديبها على المنهج العربي الإسلامي، الذي يتفق وثقافتنا وموروثاتنا، فالعملية العلمية عملية حضارية تستوجب منا بعد النظر والعمل الجاد والتكاتف العلمي الجماعي المنظم، وألا نستقبل النظرية قبل أن نمحصها ونطبقها على ثقافتنا، وبالتالي نتعامل معها على أسس علمية حديثة.
وما طرحت هذه الرؤية إلا وأنا واثق من قدرات الزملاء في الجامعات ومراكز البحث العلمي على القيام بمثل دراسة ونقد هذه النظريات وتقديمها في المشهد الثقافي، للارتقاء بالمجتمع من حالة السكون إلى حالة التفكير والتفاعل مع التراث والاعتزاز به وبمنتجيه، إضافة إلى معرفة رموزه، بطرق حديثة، هي مسؤولية المثقف أولاً وأخيراً.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved