الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 1st September,2003 العدد : 27

الأثنين 4 ,رجب 1424

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
مجموعة.. إنسان!!(12)
بقلم/علوي طه الصافي
أكتب عن رجل يطول الحديث عنه كطول نهر «النيل».. رجل عشتُ معه، وبجواره ستة عشر عاماً، أحسبها من أخصب سني عمري.. كنت خلالها تلميذاً تعلمت منه الشيء الكثير، علماً.. وخبرة.. وسلوكاً.. وتعاملاً انسانياً رفيعاً.
لم أذكر أنه في يوم من الأيام جرح مشاعري.. أو نال من حساسيتي المفرطة، رغم احتكاكي الدائم به في مختلف الظروف.. والمواقف الإنسانية المتغيرة، كما هو الحال بالنسبة لكل إنسان.
رجل يتحدى نفسه، وظروفه في مواجهة كل الأجواء.. وتغير الطقس.. وفي وجه الريح والعاصفة.. والأمواج المتلاطمة.. ليعانق النسائم القادمة.
مشغول دائماً.. لا يمل التفكير، لأن مسؤولياته المتعددة المتنوعة، تجعله هكذا مشغولاً يفكر.. ويفكر مشغولاً.. يستقبل الأمور الكبيرة، كما يستقبل الأمور الصغيرة، دون أن تدرك تغيراً في سلوكه.. وطريقة أسلوبه في تسيير الأمور.
الذي لا يعرفه يعتقد أنه ذو كبرياء في تواضع.. وتواضع في كبرياء.. وأنه رجل يختلف عن الآخرين.. أو عن بعض الآخرين.. لكنه يظل لمن يعرفه صاحب«شخصية نموذجية» فيها من والده.. وفيها من ذاته.. قد يقول البعض إنه إنسان لا يفكر في اليوم بقدر ما يفكر في الغد.. لأنه سبق له أن فكر بالأمس في اليوم.
يدرك أن «الراحة» لا تدرك بالراحة، ولكن تدرك «بالتعب».. حين يحس بالتعب يستطيع بعده أن يشعر بالراحة.. التعب عنده هو «العمل».. والراحة هي «السعادة» التي تجعله يحس بمتعة العمل.
طموحه ليس له حدود، ولا سدود.. يستسهل الصعب لإحساسه بقدراته الذاتية في تحقيق ما هو صعب.. طلب مني أن تصدر مجلة «الفيصل» بعد شهرين من بداية التأسيس لأن عمه الملك خالد بن عبد العزيز طيب الله ثراه كان ينوي زيارة «عسير» بعد شهرين، وهو حريص أن يقدم له العدد الأول.. لم أقل له ان تحقيق ذلك أمر صعب فحسب، بل يعد مستحيلاً.. فرد بثقة: لا تقل مستحيلاً، بل قل: سأحاول وربنا يوفقك. كأنه يذكرني بالمثل الإنجليزي «لا تقل لا أستطيع، بل قل سأحاول».. كان هذا مجرد درس صغير من دروس كبيرة تعلمتها منه.
أذكر مرة كنا قادمين من «النماص»، وتوقفنا قبل أن ندخل (أبها) لنشرب القهوة العربية، وبعد صلاة المغرب دخلنا أبها حيث شرع الليل يلقي بردائه عليها وأضيئت الكهرباء.. وحين وصلنا إلى قصر الضيافة» وأخذ مقعده، نادى على أحد المرافقين الذين معه.. وقال: hذهب غداً إلى البلدية، واسألهم لماذا «اللمبة» التي توجد عند «الدوار» الفلاني محروقة، مما يعرض السيارات المارة حولها من عدة جهات الى حوادث مرورية؟
قلت في نفسي: هذا هو المستحيل بشحمه، ولحمه.. كيف يملك هذا الرجل رغم جسامة مسؤولياته هذه القدرة على الملاحظة السريعة، ويعيرها هذا الاهتمام.. فربما مر رئيس البلدية نفسه من جانب هذا «الدوار» دون أن يلاحظ ذلك، أو يدرك أبعاد حساسيتها، وما قد تسببه من حوادث مرورية.. وربما لاحظ ذلك دون أن يعير الموضوع اهتمامه.. فما أكثر «اللمبات» الكهربائية المحروقة في أماكن حساسة، في كثير من مدن المملكة الرئيسية.. لا أريد المبالغة فأقول: إنه يملك «عين سحرية» خاصة.. أو «كاميرا خفية»!!
هذا موقف.. وموقف آخر ذهب إلى المطار ليلاً لاستقبال أحد اخوانه فلم يرتد المشلح، ولم يضع العقال على غترته، وعند عودته كان الوقت متأخراً بعد الساعة الحادية عشرة.. وفي الطريق مرَّ، والسائق معه بدائري في طريقهما.. النظام يقضي بأن يلف سائق السيارة بالدائري.. وبامكان الذي يود المخالفة أن يسلك عدم اللف على الدائري، وقطع المسافة بطريقة مختصرة، إذا لم يكن جندي المرور واقفاً
والذي حدث أنه أمر السائق بقطع الطريق، لأن الوقت ليس فيه زحام سيارات وبعد المضي في هذه المخالفة إذا بجندي المرور يقف أمام السيارة في منطقة ليس فيها نور يمنعه من الاستمرار، دون تعرفه من فيها، والعودة إلى الوراء ليأخذ طريقه النظامي السليم بالدوران حول «الدوار» ، حاول السائق عمداً أن يقنع جندي المرور باكمال طريقه بعد أن قطع شوطاً ليس بسيطاً.. لكن جندي المرور أصر على موقفه ، والالتزام بالنظام، فنفذ السائق أو جندي المرور بالعودة إلى الخلف، ثم توقف قبل أن يلف بالدائري، بأمر الراكب الذي يجلس بجواره، وأمره بمناداة الجندي، وكانت المنطقة التي وقفت عندها السيارة مضاءة بحيث يستطيع جندي المرور التعرف على من في السيارة، وحين ا قترب الجندي من السيارة فإذا به يفاجأ بأن الراكب بجانب السائق هو «الأمير خالد الفيصل» فرفع يده بالتحية.. وحين أمره الأمير بالاقتراب منه ارتبك معتقداً أن الأمير سيعاقبه على موقفه، وازداد ارتباك الجندي حين سأله الأمير عن اسمه ورتبته ظناً منه أنه سوف يفصله غداً.. لكنه شعر بالارتياح والسعادة حين أعطاه الأمير مبلغاً من المال، وقال له غداً راجع رئيس المرور لمنحك رتبة أعلى من رتبتك، تقديراً لموقفك الوطني في تطبيق النظام، وأملاً بأن تكون هذه الترقية حافزاً لك ولزملائك الذين ستمنح الرتبة أمامهم لتكون قدوة لهم.. تصوروا هذا الموقف الرائع للأمير خالد الفيصل.. وتصوروا فرحة الجندي وسعادته.. وبهذه الوسائل وأمثالها تطبق الأنظمة على الجميع، ويحترمها الجميع.
في أحد الأيام زار الرياض رئيس تحرير جريدة عربية شهيرة، له علاقاته الشخصية الواسعة عربياً، على المستويين الرسمي، والجماهيري، وهو يتباهى بذلك تباهياً يصل إلى حد الغرور في أغلب الأحيان.. وقد سبق لي التعرف عليه.
زرته في الفندق مرحباً بمقدمه كما يقضي واجب الضيافة العربية، رغم عدم ارتياحي له، ولأساليبه الصحافية، كما سمعت عنها.
وكان على علم بعلاقتي بسمو الأمير خالد الفيصل «مجموعة.. إنسان» بحكم عملي رئيساً لتحرير مجلة «الفيصل».. فطلب مني زيارة سموه، للتعرف عليه.. كان الزمن ليلتها الساعة السابعة والنصف، ولأنني أعرف أن سموه يتناول طعام العشاء مع «ربعه» وضيوفه في الساعة الثامنة.. وحين عرفت أن صاحبنا رئيس التحرير العربي لم يكن مرتبطاً بموعد.. أدرت قرص الهاتف لابلاغ سموه برغبة صاحبنا في زيارته، والتعرف عليه.. فرحب سموه بذلك.. وانطلقنا إلى قصره.. وتقابلا.. وتبادلا أطراف أحاديث متعددة. وحين جاء موعد طعام العشاء.. دعا سموه ضيفه إلى مائدة الطعام.. في الوقت الذي ذهبت لأغسل يدي.. وقبل أن أدخل صالة الطعام، سمعت الأمير يسأل عني.. وحين رآني دعاني للجلوس بالمقعد الذي بجواره، وكان ذلك بالنسبة لي مسألة عادية فقد عودني سموه عليها.. وكان الضيف يجلس على المقعد المجاور لسموه من الجانب الآخر.
بعد تناول طعام العشاء انتحى بي أحد «أخوياء» الأمير المقربين إليه جانباً، وكان من أبرز «الصقريين» وأكثرهم خبرة بالصقور، وأنواعها.. هذه الخبرة اكسبته معرفة بالرجال، ومعادنها من الانطباع الأول من خلال حديثهم، وتصرفاتهم.
سألني هذا الخبير «الصقار» سؤالاً حاداً: هل ضيف الأمير إنسان مغرور؟ أدهشني بسؤاله من ناحية، ولم يدهشني من ناحية أخرى!!
أدهشني من ناحية حاسته الفطرية البدوية النقية.. وكيف استطاع أن يخرج بهذا الانطباع الوجيه في وقت قصير.. ولم يدهشني من ناحية أخرى لمعرفتي من خلال معايشتي، واقترابي من سمو الأمير وأخوياء الصقور لسنوات عديدة.. ان من يخبر الصقور وأنواعها حرها وفسلها لا يعجز عن معرفة الرجال، ومعادنها.
سألته: ما الذي جعلك تحكم على الرجل بالغرور، وأنت لا تعرفه، وفي وقت قصير جداً؟ فرد علي كمن لدغته أفعى: الله المستعان يا أبا صافي.. لاخير فيَّ إذا لم أعرف الرجال من خلال تصرفاتهم، وحديثهم.. هذا الرجل منذ جلوسه مع الأمير، وهو يتحدث عن بطولاته وفتوحاته وأعماله الصحفية التي قام بها مع هذا الزعيم، وذاك الرئيس، وذلك الوزير.. حتى حين دخلنا صالة الطعام سحب الكرسي المجاور للأمير، وجلس عليه قبل أن يجلس الأمير على مقعده.. لهذا أحين نادى الأمير على اسمك، وأجلسك بجواره.. أراد أن يقول للضيف بطريقة غير مباشرة ان لدينا رؤساء تحرير يجلسون بجوار الأمراء، وأولاد الملوك!!
سألته معجباً بلماحيته، وسرعة بديهيته.. وعلامات الاستفهام ترسم خارطتها على وجهي: وهل أسر سمو الأمير لك بهذا المعنى؟ سألته لأحرجه، رغم انه تصرف ليس غريباً من «أبي بندر» الذي أعرف اعتزازه بكفاءات هذا الوطن الغالي في نفوس الجميع حكاماً، ومحكومين.. وما ترشيحه لي رئيساً لتحرير مجلة لها مكانتها الكبيرة في نفسه، لأنها تحمل اسم والده الشهيد «الفيصل» ومنحي ثقته الغالية التي أعتز بها، رغم معارضة المعارضين، ومناهضة المناوئين، ما هي إلا نموذج يجسد اعتزازه، وتقديره لكل كفاءة وطنية، تمتلك القدرة على اثبات وجودها، عملاً وابداعاً، وتفوقاً، ونجاحاً، إذا أعطيت لها الفرصة المناسبة.
رد علي هذا «الصقري» البدوي الرائع دون أي شعور باحراج قصدته من سؤالي: خذها مني صادقاً يا أبا صافي.. ومسح على لحيته التي يعتز بها.. واسأل أبا بندر ليؤكد لك ما ذهبت إليه.. وبدوري لم أسأل الأمير عن هذا الأمر واعتبرته عابرا لا يستحق السؤال.
وأنا في هذا الموضوع لا أريد أن أتحدث عن ذكرياتي، أو بعض ذكرياتي مع الأمير خالد الفيصل ومجلة «الفيصل» لأن هذه الذكريات سوف أوردها في مذكراتي الصحافية التي تنشر تباعاً في «المجلة العربية» الشهرية. .لحرصي على أن تكون توثيقاً تاريخياً لمجلة «الفيصل» وصاحبها، بصفتي شاهد مرحلة تأسيسها، وانطلاقتها الميمونة، أملاً في أن يستفيد من هذه المذكرات، أي باحث، أو دارس مستقبلاً.. سائلاً ا لله التوفيق.. ولكني سأتحدث هنا عن بدايات معرفتي بسمو الأمير خالد الفيصل.. اعتقاداً مني باستقلاليتها عن المذكرات السابقة الذكر.


يتبع
ص.ب7967 / الرياض 11472

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved