الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 1st September,2003 العدد : 27

الأثنين 4 ,رجب 1424

الرسام سينوغرافا
كاظم حيدر أنموذجا
بقلم/عواد علي
يعد التعاون بين المخرج والسينوغراف أساس تصميم العرض المسرحي وتنفيذه، اذ ينصب عمل السينوغراف على خلق الفضاء المسرحي بكل ابعاده ومكوناته. وقد تعددت التسميات التي اطلقت على هذا الفنان: مصمم الديكور، مصمم المناظر، وأخيراً السينوغراف. كما تطورت وظيفته في العملية المسرحية حسب تطور النظرة اليه وحسب تطور شكل الفضاء المسرحي وفلسفته وجمالياته. ومن اهم الاسماء التي لمعت، عالميا، في عالم سينوغرافيا المسرح: الالماني والتر غروبيوس، مؤسس مدرسة الباوهاوس، الذي وضع تصاميم لمسرح يكون انموذجا للمسرح الشامل، وعمل مع المخرج الالماني اروين بسكاتور، التشيكي جوزيف سفوبودا، مؤسس فرقة «لا تيرنا ماجيكا» في براغ، الذي استخدم العروض السينمائية عنصرا دراميا على الخشبة، البولوني جوزيف شاينا، الذي ادار ستوديو «المسرح» في كراكوفيا، وانصب عمله على البعد التصويري والعناصر المرئية التي تتولد من مفردات اللغة التشكيلية في المسرح، الفرنسي رونيه آليو، الذي عمل مع مواطنه المخرج روجيه بلانشون، واليوناني يانيس كوكوس، الذي عمل مع المخرج الفرنسي انطوان فيتيز. وعربيا لمعت اسماء عديدة، بالرغم من ان اختصاص السينوغرافيا في المسرح العربي لا يزال في خطواته الاولى، مثل: المصري رودي صابونجي الذي برز في تصميم سينوغرافيا العروض لكثير من المخرجين المعاصرين في اوروبا، اللبناني غازي قهوجي، الذي عمل في تصميم سينوغرافيا عروض فرقة الاخوين الرحباني، وغيرها من الفرق، المغربي محمد الادريسي، الذي تأثر بالفن الياباني والصيني القديم وركز اعماله على حركة الجسد في الفراغ، التونسي عماد جمعة الذي حصل على جوائز عالمية، الاردني كامل هاشم الذي عمل مع الفرقة القرمية العراقية نحو عقدين، وصمم سينوغرافيا عروض الكثير من مخرجيها، وحصل على عدة جوائز من المركز العراقي للمسرح، وأخيرًا الرسام العراقي المعروف كاظم حيدر، الذي توفي قبل ما يزيد على عقد من الزمن نتيجة مرض خبيث وهو في ذروة نضجه الابداعي، وسأحاول في الاسطر الآتية الوقوف على بعض انجازاته في مجال السينوغرافيا، والتي ستبقى بصماتها محفورة في اذهان المسرحيين العراقيين.
بدأ اهتمام كاظم حيدر بالسينوغرافيا بعد حصوله على بعثة لدراسة فن الرسم في لندن عام 1958م، فدفعه حبه للمسرح الى دراسة تصميم الديكور المسرحي وتقنياته، الى جانب الرسم. واكتسب خلال متابعته للعروض الانجليزية في مسارح المدينة والجامعة خبرة اضافية اغنت دراسته. وبعد عودته الى بغداد في اوائل الستينات بدأ يصمم السينوغرافيا لعروض بعض اساتذة معهد الفنون الجميلة، ويذكر المخرج سامي عبد الحميد في كتابه «تجربتي في المسرح» انه حينما قرر اخراج مسرحية «كنوز غرناطة» لجير الدين سكس عام 1964م، استهوى النص كاظم حيدر، ووجد فيه فرصة لتحقيق افكاره عن تصميم المنظر المسرحي على وفق منظوره التشكيلي والمعماري، وخلق التنوع في الاشكال والالوان، وسهولة تحريك مفردات المنظر، وكذلك توفير الطراز الخاص بالمعمار الاندلسي. ومنذ ذلك الوقت طلب حيدر من عبد الحميد ان يترك له الحرية الكاملة في وضع التصاميم الخاصة بالمنظر، وألا يلجأ الى تلقينه حول طبيعتها، وان يكتفي الثاني بإبداء بعض الملاحظات عن بعض المتطلبات التي تفرضها المشاهد المتغيرة الكثيرة في المسرحية. ويعترف عبد الحميد انه منذ ذلك الوقت فهم ان عمل المصمم لا يكون فناً الا اذا استقل، وان الابتكار لا يتحقق فيه اذا اصبح تابعا لعمل المخرج، فالمصمم يضيف رؤية اخرى الى رؤية المخرج في مهمتها السينوغرافية، كما ادرك بعد ذاك ان الكثير من الذين عملوا في فن الديكور المسرحي وصناعته كانوا منفذين لافكار المخرجين اكثر مما يكونون مصممين مبتكرين. ويضيف عبد الحميد ان كاظم حيدر قدم له بعد حين عدة تخطيطات ومصورات ورسوم فهم منها الخطوات التي يتبعها المصمم في تصميماته، ووجد ان عمله يلبي متطلباته وتطلعاته، وكانت النتيجة تحقيق مناظر مسرحية مناسبة لطابع المسرحية واسلوبها، ومساعدة للممثلين في تحركاتهم على الخشبة وفي انتقالهم من مشهد الى آخر. ثم صمم حيدر السينوغرافيا لأربع مسرحيات اخرجها عبد الحميد للفرقة القومية للتمثيل ابتداء من عام 1965م، وهي: «تاجر البندقية» لشكسبير، «انتيغونا» لجان آتوي، «الحيوانات الزجاجية» لتنيسي وليامز، و«النسر له رأسان» لجان كوكتو. وبعد معاودة فرقة المسرح الحديث نشاطها اثر عودة الكاتب والممثل يوسف العاني من غربته خارج العراق التي دامت اربع سنوات، من منتصف 1963م، لاسباب سياسية، ركز حيدر كل جهوده السينوغرافية لاعمال هذه الفرقة، وكان اولها مسرحية «صورة جديدة» من تأليف العاني واخراج سامي عبد الحميد. وقد تميز تصميمه بالاسلوب الواقعي المختزل الذي يتناسب مع تعدد الفضاءات «بيت عراقي قديم، مكتب اعمال تجارية، مقهى، ومنتزه». ثم صمم السينوغرافيا لمسرحية «المفتاح» لنفس المؤلف والمخرج والتي تميزت بملامحها التراثية واسلوبها الملحمي، وعدت في وقتها تحولا مهما في اسلوب التأليف المسرحي في العراق. وقد جاء تصميم حيدر متناسباً مع الطبيعة التراثية لموضوعه المسرحية، واتسمت مفرداته بكل موتيفات العمارة العراقية، فضلا عن منصة اتخذت شكل حدوة الحصان اشارة الى الحلقة المفرغة التي تدور حولها الاحداث كما استخدم حيدر مفردات سينوغرافية ترمز الى فضاءات الاحداث المختلفة مثل: «دكان الحداد، البئر، اسطبل الثيران، قصر العروس، والبستان» وتسمح للممثلين برفعها من على المسرح.
بعد مسرحية «المفتاح» صمم كاظم حيدر سينوغرافيا مسرحية «الخرابة»، وهي من تأليف يوسف العاني، وتقديم فرقة المسرح الفني الحديث، أيضاً، واخراج سامي عبد الحميد وقاسم محمد، وقد عمد في تصميمه الى التجريد والابتعاد عن اي طابع محلي، تناغماً مع البعد الشمولي لموضوعية المسرحية التي تتناول نضالات الشعوب ضد الاستعمار، ومنها الشعب الفلسطيني والشعب العراقي والشعب الفيتنامي وانجساما مع اسلوبها التسجيلي والملحمي «البريختي» الذي يبتعد عن عناصر الايهام. كما قام حيدر بتعليق شاشة بيضاء في اعلى وسط المسرح لعرض صور وثائقية بوساطة جهاز عرض الشرائح.
وواصل كاظم حيدر تعاونه مع الفرقة في تجارب مسرحية اخرى اخرجها قاسم محمد، مثل «النخلة والجيران» التي اعدها عن رواية بنفس الاسم للروائي العراقي غائب طعمة فرمان، وقد حظيت هذه المسرحية في اواخر الستينات وبداية السبعينات بشهرة واسعة في كل انحاء العراق لقيام التلفزيون ببثها للجمهور مرات عديدة، وكنت حين شاهدتها اول مرة في الثالثة عشرة من عمري، ونال ممثلوها: زينب، ناهدة الرماح، خليل شوقي، فاضل خليل، مقداد عبد الرضا، عبد الجبار عباس، آزودوهي صوموئيل، وغيرهم اعجابا جماهيريا كبيرا ونظرا لكثرة مشاهد المسرحية وتنوع فضاءاتها التي صممها حيدر بأسلوب واقعي يحاكي البيئة الشعبية ذات الطراز البغدادي، فقد استخدم منصتين تدوران حول محورين صنعتا خصيصاً للعرض لتسهيل انتقال المشاهد من دون اللجوء الى تغيير مكونات فضاءاتها. ويشير سامي عبد الحميد الى ان كاظم حيدر سلك السبيل نفسه بعد ذلك في تصميم سينوغرافيا مسرحية «الشريعة» ليوسف العاني واخراج قاسم محمد، بل انه تطرف هذه المرة في واقعيته متجهاً صوت الطبيعية من خلال استخدامه خامات ومفردات معمارية اصلية. وفي مسرحية «نفوس» التي اعدها قاسم محمد عن مسرحية «البورجوازيون» لمكسيم غوركي، واخرجها للفرقة، اعتمد حيدر الاتجاه الطبيعي أيضاً في تصميم السينوغرافيا، مبرزاً تفاصيل الفضاء الذي يمثل منزل اسرة بورجوازية في بغداد.
أما في مسرحية «بغداد الازل بين الجد والهزل» التي اعدها قاسم محمد عن مصادر تراثية عربية، مثل مؤلفات الجاحظ، ومقامات الهمذاني والحريري، ومراجع حديثة عن العامة في بغداد، والظرفاء والشحاذين والصعاليك والطفيليين الذين كانت تعج بهم اسواق بغداد وطرقاتها وحاراتها وميادينها العامة في العصر العباسي، فان الامر اختلف في منهج حيدر، وبخاصة ان الفضاء المسرحي هنا «السوق البغدادي» يكاد يكون هو البطل الحقيقي للمسرحية، وان العرض مرشح لتقديمه في اكثر من مكان خارج العراق، فمال الى التصميم الارتجالي المرن ذي المنحى التعبيري الاختزالي الذي يمكن استخدامه في اي مسرح مهما كانت طبيعته المعمارية، ولذلك تشكلت السينوغرافيا من قطع تشير الى الاشكال المعمارية للفضاءات التي تجري فيها المشاهد، يقوم بتركيبها وتثبيتها او تعليقها في الرافعات.
في عام 1973م عاد كاظم حيدر إلى العمل مع المخرج سامي عبد الحميد، فصمم له سينوغرافيا مسرحية «هاملت عربياً» التي اندفع المخرج في تعريب احداثها رغبة منه في ايجاد خصوصية للمسرح العربي، مفترضا وقوع احداثها في منطقة ما على ساحل الخليج العربي، ومتخيلا هاملت شابا عربيا ترعرع في بيئة بدوية، ولكنه تجاوز تلك البيئة وتهذب خلال دراسته خارج بلده، وتعالى على عادات أسرته الحاكمة وتقاليدها. وقد تكونت سينوغرافيا حيدر من فضاء يوحي بالبيئة العربية البدوية: نسيج الخيام، السجاجيد، والافرشة العربية، لتنسجم مع الازياء التي يرتديها الممثلون، وهي ازياء ابناء الجزيرة العربية المصنوعة من اقمشة خشنة في ملمسها وبألوان متقاربة ثم صمم له حيدر سينوغرافيا مسرحية «الخان» ليوسف العاني، وانتاج الفرقة نفسها، عام 1976م مواصلا اتجاهه الطبيعي من خلال استخدام مفردات ومواد من الواقع، مثل اكياس الحبوب، وصفائح الزيت المأخوذة من مخازن بيع المواد الغذائية ويذكر المخرج عبد الحميد ان كاظم حيدر وضع في البداية تصميما تقليديا للفضاء «الخان» حيث الأبواب الخشبية الكبيرة، والجدران الثلاثة التي تحدد الموقع. وبعد ان جرى بناؤه، وقبل موعد العرض بيومين، احس المخرج انه غير راض عن ذلك التصميم لخلوه من اللمسات المسرحية والجمالية، فاقترح عليه حيدر استبداله بتصميم آخر مختزل من دون جدران ولا باب كبير، بل بتنظيم المفردتين الرئيسيتين الاكياس والصفائح بتشكيلات موحية. وهذا يدل علي مرونة الفنان حيدر وتنوع بدائله. وفي عام 1977م صمم لعبد الحميد سينوغرافيا وازياء مسرحية «كلكامش» التي اعدها المخرج عن نص الملحمة المترجم الى العربية، وانتجتها الفرقة القومية للتمثيل بعد نجاح عرضها في اكاديمية الفنون الجميلة. وقد اتفق الاثنان مسبقا على اتباع الدقة التاريخية قدر الامكان في التصميم، واستخدام الحرف المسماري مفردة اساسية من مفردات السينوغرافيا. وجرى صنع اشكال عديدة من مادة الفلين تمثل عناوين باللغة السومرية توزع على خشبة المسرح لتشير الى الفضاءات التي تتضمنها مشاهد الملحمة.
وفي اطار عمله مع الفرقة القومية صمم لها حيدر، أيضاً، سينوغرافيا مسرحية «المتنبي» تأليف عادل كاظم، واخراج ابراهيم جلال، مستنداً في تصميمه الى مفردة رئيسة هي الخيمة العربية التي تربط بالحبال برافعات المناظر، بحيث تتدلى وبأشكال مختلفة حسب ارتفاع الرافعات عن الخشبة، وبذلك تشكل فضاءات الاحداث المتعددة. ولكن بعد تعليق الخيمة الكبيرة التي كانت تغطي فضاء المسرح وجد منفذ الاضاءة صعوبة في توجيه اجهزته فأمر المخرج، من دون تفكير جدي بحل فني، برفع الخيمة كلياً وعدم استخدامها، الامر الذي أثار غضب حيدر ودعاه الى ترك العمل، وعدم التعاون مع جلال مرة اخرى.
يؤكد سامي عبد الحميد ان كاظم حيدر في تصاميمه السينوغرافية الاخيرة، معه ومع المخرجين الآخرين، لم يلتزم بالخطوات الاعتيادية المتبعة في التصميم، بل اصبح يكتفي بوضع مخططات التصميم في ذهنه ولا يقدمها مرسومة على الورق، كما كان يفعل سابقاً، عدا في حالة واحدة حينما صمم سينوغرافيا مسرحية «واعروبتاه» لألفريد فرج، التي كان المخرج كرم مطاوع ينوي اخراجها في بغداد في منتصف الثمانينات اذ قام بتزويد المخرج بكل المخططات والرسوم، بيد ان ظروفا معينة حالت دون ظهور انتاج المسرحية.
ومن يومها ابتعد حيدر عن المسرح، واسهم المرض الخبيث الذي ألم به في ذلك الابتعاد أيضاً حتى وافاه الاجل.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved