Culture Magazine Monday  01/10/2007 G Issue 218
فضاءات
الأثنين 19 ,رمضان 1428   العدد  218
 

رفيق السوء
د. شهلا العجيلي

 

 

لعلّ عبارة (الوحدة خير من رفيق السوء) من العبارات الثقافيّة التي شكّلتنا، فعشنا ونحن نجاهد لنتجنّب رفيق السوء، ونتناصح في تجنّبه.

لكن إذا ما تأمّلنا بعض تجاربنا، وجدناها عبارة تنطوي بعموميّتها على إحدى حيل الثقافة، لأنّ رفاق السوء لا يندرجون في سياق واحد، ولا يتعارف عليهم بوصفهم منظومة ذات وعي موحّد، ورسالة واحدة، كما أنّنا بوصفنا متلقّين لسوئهم لا نندرج في حقل واحد أيضاً، لتمايز التجربة والوعي بيننا.

ثمّة نمط ثقافيّ تقليديّ لرفيق السوء - جنّبنا الله صحبته - وهو ذلك الذي يفسد عليك دينك، ويخفي عنك عيوبك، ويزيّن لك القبيح، ويقبّح لك الحسن...

لكنّ الرفيق الذي نعني يخرج على هذا النمط، وقد يكون في نعته برفيق السوء الكثير من التجنّي، لكنّه تجنّ في سياق محبّب، فمن التجنّي ما يُمنّي!

رفيق السوء هذا الذي نتجنّى عليه تختاره في أشدّ حالات وعيك، وتصحبه طوعاً ليوقد فيك شوقاً، وذكرى، وألماً، وعُقَداً تحتاجها لتواصل حياتك من جديد.

وتكون رفقة هذا الرفيق أشدّ وطأة حينما تلقاه في سفر، فيؤرّقك وصحبُك هجوع، سيّما إذا كان سرف الفؤاد يرى عسلاً بماء سحابة شتمى، فإنّه لا بدّ حاملكَ إلى ما فررتَ منه، إذ تفاجئ بأنْ (سما لك شوقٌ بعدما كان أقصرا)!

وإذا كان رفيقك كثيرَ التذكّر والتعلّل بأيّام خوالٍ له، حلّ الهجر فيها بينه وبين أحبّته، كما حلّ بكَ، فإنّك ستتقرّى دمعة في عينيكما معاً، كنت في غنى عنها، مستذكراً قول الشاعر:

إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا وشَلاً بعينكَ ما يزال معينا

غيّضنَ من عبراتهنّ وقلنَ لي ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا!

وقد تشي أحاديث رفيق السوء هذا بالآخرين، فتجعلك ترتاب فيه، وتفكّر فيما إذا ستكون أنت مادّته التالية، ممّا يقلق طمأنينتك الباردة، فتدبّ الحياة في حجرة الشكّ المهجورة في نفسك متسائلاً كما تسائل أسلافك:

هل ما علمتَ وما استودعتَ مكتومُ أم حبلها إذ نأتكَ اليومَ مصرومُ؟

ثمّ يضرب فيك بسياط من الأنانيّة، فتحبّ أن تعدم المنافس في رفقته، وعندها تتذكّر تاريخ التبديلات والتبدّلات في حياتك، وتفطن إلى أنّ ذلك من طبيعة البشر، وأنّك اعتدت ذلك، بل بتّ تستمتع به، متعلّلاً بقول الشاعر:

أأسماء أمسى ودُّها قد تغيّرا سنبدلُ إن أبدلتِ بالودّ آخرا

وإن كان لرفيقك عينان إشكاليّتان فإنّهما شجن آخر ينضاف إلى مجموعة الشجون التي تستدعيها هذه الرفقة، لأنّك حينئذ ستعود إلى ما جاهدت طويلاً لتخلّفه وراءك، وستردّد:

عيونُ المها بين الرصافةِ والجسرِ جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري

أعدنَ ليَ الشوقَ القديمَ، ولم أكن سلوتُ، ولكن زدن جمراً على جمر

تلكّ الأشجان والأشواق كلّها يهيّجها ذاك الرفيق، أفلا يحقّ لنا نعته برفيق السوء في وجه آخر من وجوه نسقنا الثقافيّ الذي يجلّ في معظمه النقول، وها هو رفيق السوء يحثّنا على استحضارها طوعاً ورغبة!

بقي أن أقول: قد يكون أيّ منّا رفيق سوء من حيث لا يشعر، ومن غير نيّة مبيّتة.

- حلب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة