Culture Magazine Monday  01/10/2007 G Issue 218
شهادات
الأثنين 19 ,رمضان 1428   العدد  218
 

«الثقافية » ترصد شهادات عربية وعالمية عن مسيرته الأدبية
عبد السلام العجيلي..الشامخ شخصاً وإبداعاً

 

 

الثقافية - حسن عبدالله الخلف - دمشق

العجيلي استطاع أن يضرب نموذجاً حقيقياً بالشخص الذي يضع المركز أينما يقيم، فبعيداً عن مركز العاصمة فقد جعل من الرقة إحدى عواصم الرواية العربية، وقد جاء إبداعه إنسانياً شاملاً عرف كيف يكسر جدار العزلة الذي يضيع خلفه من الأدباء حتى الذين يقيمون في العواصم الكبرى.. العجيلي أصبح بالفعل كما اخترتم بتوفيق بديع أيقونة لا للرقة فحسب ولا للرواية فحسب بل لإرواء الإنسان الذي جعل من مدينته نموذجاً نضراً يحتوي كل ثقافات العالم.

الحديث عن الطبيب والأديب الدكتور عبد السلام العجيلي يظل ممتعاً ومثيراً على الرغم من كل ما كتب عنه أو قيل فيه، لأن شخصية العجيلي الإنسان لا تقل أهمية وإثارة وإدهاشاً عن قصه وإبداعه الأدبي لما في هذه الشخصية من ثراء واقتدار فهو البدوي والحضري والأديب والعالم وشيخ العشيرة والوزير والزاهد في المدن والرحالة الذي طاف العالم والمحاضر والفنان والمتواضع والشامخ مثله مثل قصصه القائمة على التضامن والمفارقة قطب الواقع وقطب الأسطورة.

يقول العجيلي (إذا لم يكن ارتباطي بالرقة عاطفياً فهو على الأقل ارتباط واجب، بلدة عشت فيها، أهلي فيها وأصدقائي فيها، وهي التي زودتني بما بنيت عليه حياتي المستقبلية من علم ومقام اجتماعي وإمكانيات مادية، من العقوق أن أتركها لمجرد أن هناك بلداً أحسن منها...) حيث اقترنت مدينة الرقة بالعجيلي مثلما اقترن العجيلي باسمها فكلاهما يعرف بالآخر إذ لا يذكر الرجل إلا وتنهض الرقة مع ذكره ولا تذكر الرقة حتى ينهض اسم العجيلي مع ذكرها كلاهما يكمل الآخر ويكتمل به.

سبق إصرار

(... يقول لي بعض الأحبة: أليس إقامتك في الرقة حالة غريبة! ألم يكن المقام أطيب في كثير من الأماكن والمدن؟ والحقّ أقول: لقد اخترت هذا المقام عن سبق الإصرار والترصد، فأعطتني مدينتي مثلما أعطيتها، وصدق الشاعر حين قال:

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها

ولكن أخلاق الرجال تضيق...)

كان ذلك بعض ما جاء في رسالة الأديب الكبير عبد السلام العجيلي إلى المشاركين في مهرجان العجيلي الأوّل للرواية العربية الذي أقيم قبل وفاته بأشهر في مدينته الرقة بجهود مدير ثقافتها الأستاذ حمود الموسى، ويضيف العجيلي لم أرد أن أكون عالة على أحد، وإنما أردت أن أعيش بعزة فقد خلقت على سوية لم أقصد إلى تجاوزها، ومارست فعل الحياة بعفوية.. ويضيف أيضاً: أعتز بهذه المناسبة ولكن هو جميل أن أكون مثالاً للإنجاز والمنجز الفكر والأدبي بين أهلي، وأن يتنادى المحبون من كل حدب وصوب وكأنني بالرقة تزحف إلى كل مدينة جاؤوا منها، وكأنني بنفسي أركب سيارتي وأزور مدائنكم التي أحبها كما أحبكم..

يقول الدكتور صلاح فضل من مصر: عاد العجيلي إلى مدينته الصغيرة ليبادلها العشق والعطاء وهو بذلك لا يرد الوفاء بالوفاء فحسب لكن يمد خارطة الوعي العربي إلى المدن الصغيرة والبادية والريف لأن وعينا يتقلص وينحصر كلما تمركزنا في زاوية واحدة.

لقد جعل من الرقة إحدى عواصم الرواية العربية من هنا فالاحتفال بالعجيلي يعد احتفالاً بالرواية العربية التي تخمرت وتجذرت هنا ودخل إنسانها تاريخ الإبداع في قلم العجيلي، وهذه الخبرة والتواصل الحميم بالبشر وبالأرض وبرائحة الماء والتراب والإنسان لا يحيله إلى كاتب محلي معزول عن غيره فإبداع العجيلي إبداع إنساني شامل عرف كيف يكسر جدار العزلة أكثر من بعض من يقيمون في العواصم الكبرى فرحلاته المادية والحسية التي قام بها في تجوالاته العريضة كانت أجنحته في العبور إلى الإنسانية فإخلاصه العميق للفن وتلك الثقافة الواسعة ذات البطانة الدافئة والوعي بثقافة الآخرين وأروع ما أنتجته عقولهم من فن تشكيلي ونحت وإبداع وكتب كانت الأجنحة التي طار بها أدبه ليعانق الأدب الإنساني.

ويضيف صلاح فضل عن رواية (أجملهن) وهي الرواية التي نالت العديد من القراءات وبالمناسبة هي آخر ما كتبه عبد السلام العجيلي من أعمال إبداعية والتي صدرت عام 2001، يقول: مع أنه شهد فترات المد والانحسار الأيديولوجي القومي والماركسي، فقد استطاع أن ينجو من تياراتها ملتزماً دائماً قضايا الإنسان العربي، رواية (أجملهن) تغمر قراءّها بعنفوان تجربتها الشابة، مع أن صاحبها تجاوز الثمانين بسنين، ومن المثير للتأمل أن أسلوب الرواية الصافي، أصواتها القليلة وخطوطها العريضة الأنيقة في الحوار والحركة تشيع لدى القارئ نوراً داخلياً يشبه إضاءة الأفلام السينمائية الموحية بالبعد التاريخي الفاصل بين الأزمان، وعلى الرغم من الطابع الوصفي والحواري المسيطر على الرواية واقتصارها على عالمي سعيد وسوزان وما يناوشهما من ذكريات وتجارب، فإن تنقلهما في المكان ومشاهداتهما للمدن والآثار ومناجم الملح وبحيراته في أوروبا يعطي حيوية فائقة للأحداث، لاسيما بنمو العلاقة بينهما من التعارف إلى التمازج الجارف حتى درجة العشق، إذاً فهي لا تنتمي إلى مجرد أدب الرحلات المألوف، بل تنفذ إلى أسفار القلب وفتوحات الروح في فلسفتها الرائعة عن الدين والحياة والحب والشرق والغرب، وذلك عبر رحلة مثيرة لمحام عربي شاب إلى فيينا فتسحره نساؤها حتى يقرر في نزق موافقة أجملهن، والطريف أنه يظفر بذلك..

هذا المنجز لعبد السلام العجيلي يراه الناقد نضال الصالح انه لا يستمد أهميته من كونه أحد أبرز التجارب المبكرة نسبياً في حقل الإبداع الروائي السوري بخاصة والعربي بعامة فحسب بل أيضاً من كونه علامة مميزة في ذلك الحقل الذي تمكن في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الفائت من إحداث تحولات مهمة في الذائقة الجمعية العربية.. ويضيف الصالح وعلى الرغم من أن ذلك المنجز لم يؤصل أو يسهم في التأصيل على نحو أدق لكتابة روائية عربية لها هويتها الخاصة بها إذ ظل على امتداد نحو أربعة عقود رهين تقاليد بعينها فإنه استطاع أن يجتذب إليه أنظار القراء والنقاد واهتمامهم منذ أول عمل روائي له: باسمة بين الدموع 1958 الذي مثل في رأي عدد غير قليل من المشتغلين بالنقد الروائي إشارة مهمة لظهور صوت روائي مميز كان العجيلي أرهص به في إبداعه القصصي بخاصة والأدبي بعامة ويرى الصالح أن المتتبع لتجربة العجيلي الأدبية ينتهي إلى أنه كان قاصاً أكثر منه روائياً بسبب تفوق نتاجه القصصي على نتاجه الروائي على مستويين معاً.. الكم والأداء الفني، وهذا ينفي انه كان (حكواتياً) بامتياز بالمعنى النقدي للحكي لا بمعناه الشعبي وليس أدل على ذلك من كفاءته العالية في بناء عالم تخييلي لا يكتفي بأسر قارئه حتى نقطة النهاية فحسب بل يتجاوز ذلك إلى مهارته الواضحة في تشكيل نسيج سردي محكم أيضاً على الرغم من أن كل نص من نصوصه الروائية أشبه ما يكون بأرخبيل من الوحدات السردية التي يكاد يشكل منها نصاً روائياً بنفسه..

الروائي السوري ممدوح عزام (العجيلي وأنا) حول قصة (الشباك) من مجموعة

(قناديل اشبيلية)، والتي كان قد قدم لها بقصة شهيرة من قصص الأنبياء وهي التالية (قال الخضر لصاحبه: هذا ملك الموت قادم إلينا، فاستولى على صاحبه الفزع، وقال له: يا نبي الله إني خائف، ادعُ ربك أن ينقلني الساعة إلى الهند، فدعا الخضر ربه، فأرسل الله ملكاً حمل صاحب الخضر إلى الهند في ساعته، وتقدم ملك الموت وعلى ملامحه الدهشة إلى الخضر، فقال له الخضر وماذا يدهشك؟ قال ملك الموت: يدهشني أني رأيت صاحبك هنا، وفي لوح الأزل مكتوب أني أقبض روحه في الهند).. هذه (الحلاوة) في أدب العجيلي يقول عزام هي الجرعة المحسوبة والضامنة لأي نص أدبي في العالم كله، ذلك أن أي خطاب يمكن أن يفسد، أو يفقد جوهر رسالته إذا ما زال عنده طعم الحلاوة، هذه الحلاوة يجدها موجودة بالفعل في قصص العجيلي، وإذا ما تأملنا مطالع قصصه سوف نجد أن أول ما يفعله هو الإمساك بتلابيب القارئ لمتابعة قصته التي تميل إلى استعارة صياغات الحكاية ونهجها في التشويق، ولكنها سرعان ما تنمو داخل حقلها كنص يتباين يختلف عن منطوق الحكاية..

ويضيف عزام: ليست لدى العجيلي نهايات، والأفضل أن أقول إن لديه نهايات وليست خواتيم، فالخاتمة قفل لا يتمدد النص خارج حدودها، أما النهاية فإنها تنفتح على آفاق يمعن خيال القارئ فيها من أجل إعادة تركيب القصة، كما أن قصصه عصية على التلخيص مثل أي عمل جيد، إذ إن هذا الإجراء يسلب النص قوة الحضور، ولا حضور إلا بالاكتمال، وأغلب قصصه مكتملة..

(مصرع أحمد بن محمد حنطي) قصة قرأها الأديب ياسين رفاعية منذ أربعين عاماً يقول عنها إنها أمسكت به حتى اللهاث والرعب، كتبها العجيلي بأسلوب (فلاش باك) بتوتر عال، بحيث يجد القارئ نفسه كأنه هو القتيل - شخصية القصة التي أصيب بالرصاص في الصحراء - ويضيف إن معظم قصصه كتبها على هذه الشاكلة، إنها حياة زاخرة بالناس ومستوحاة بعمق من أعماق وجودهم وتفاصيل عيشهم اليومي، وإن أردت الاختصار أقول إن العجيلي نفسه قصة كبيرة يتلبس الحالة إلى حد الانعجاب والالتحام بتفاصيلها، هكذا تخرج القصة من بين يديه بناءً محكماً إلى آخر الحدود شكلاً ومضمونا، واعتبر رفاعية أن القصة لدى العجيلي كانت تمريناً على الرواية، فقد كان يطوّر القصة من القصيرة إلى الأطول قليلاً إلى القصة الطويلة ثم أخيراً إلى الرواية، ويذكر رفاعية إن العجيلي كتب حوالي عشر روايات، كان الحب هو الترسانة المسلحة فيها وعليه يبني معظم أعماله سجل الحياة بكل تداعياتها بقلم صادق ورهيف، ميزة ما كتبه أنه مقروء من مختلف طبقات الشعب، كما كتب الرواية المحلية العربية العالمية بوقت واحد، أدرك هذا الأمر المستشرقون وتحدثوا عنه مطولاً!.

أما الأديب وليد إخلاصي فيذكر: إن العجيلي خرج من عمق الصحراء السورية نقياً كذرات رملها، وقد تحولت إلى تربة أزهر العلم في طياتها ليصبح طبيباً يداوي الجراح، وما لبثت روحه أن تفتقت عن حكواتي قدره أن يشهد على عصره، كما أن اهتمامه بالآخرين تفجر ليمارس السياسة فترة من حياته فيكون عيناً لها على الوطن وعيناً على ذاكرة زمن يلهث هرباً من ضياع، ويضيف إخلاصي بأن العجيلي قد حقن بالقوة فيتأكد انتماؤه إلى رحم الأرض التي أنجبته، ولو أن الزمن عاد إلى الوراء لوجدنا ساحر القبيلة يدور بين الخيام في الأحياء المتناثرة وهو يوزع تمائم العافية، ولتبين لنا أنه قد حمل في الزمن الحاضر اسم عبد السلام العجيلي، فما أعجب التاريخ في تناسخه!!

العجيلي مترجماً إلى الفرنسية

يتحدث الدكتور جمال شحيّد عن الكتب العربية المترجمة إلى اللغة الفرنسية ونوعيتها، وعما تُرجم للدكتور العجيلي: (قلوب على الأسلاك) التي ترجمتها إلى الفرنسية المستشرقة أوديت بيتي وقدّمها جاك بيرك الذي يقول عنها: إنها رواية دمشق، وهي رواية المجتمع السوري بكافة أطيافه التي تجمعت في العاصمة من بدو وحضر وشوام أقحاح وموظفين وحالمين، إنها رواية تعبّر عن حلم التكنولوجيا الموؤود، حلم مجتمع عربي ناشط يسعى للدخول في الحداثة المعاصرة، ولكن ألاعيب السياسة كسرت هذا الحلم...!

كما ترجمت إلى الفرنسية (قناديل أشبيلية)، وعيادة في الريف، ويقول الباحث لقد كانت الترجمة سلسة باللغة الفرنسية، والمترجمات الثلاث تمتعن بالدقة في أداء المعنى العربي بلغة فرنسية حيّة وطبيعية تناسب أسلوب عبد السلام العجيلي بسلاسته وبساطته، وكأني بالرجل أراد أن يصل إلى أكبر شريحة من القراء.

واسيني الأعرج يرى في الحكاية التي أنجزها عبد السلام العجيلي على مدار نصف قرن

من الممارسة الإبداعية، وقرابة القرن من الحياة، تشكّل مدونة كاملة قابلة للدرس والتحليل نظراً لاكتمالها واستقامتها للدرس الأدبي، فهي لا تشذ مطلقاً عن قاعدة المنجز الثقافي العربي والإنساني، فقد اشتغل العجيلي حسب الأعرج - على العناصر الرمزية التي لا تشي بدواخلها منذ اللمسة الأولى للنص، والرمز في خطابات هذا الروائي هو بمنزلة اللازمة التي تمر سرياً عبر المحكي الأدبي. ينطلق الأعرج في حديثه عن العجيلي من خبر حقيقي يراه مليئاً بالإيحاءات رواه الكاتب عن نفسه محدداً علاقة المثقف بالآخر المسحور بإنتاج الشرقي يقول: شدني هذا الخبر إليه لأنه يجسد إلى حد بعيد الكثير من العلاقات المتداخلة، بعضها واضح ومباشر وبعضها الآخر يبين إلى حد بعيد قدرة الكاتب على تمرير انشغالاته الثقافية بقدر كبير من الذكاء.. وهو ما يجعل منه على العكس من مثقفي جيله: القوة الصامتة بامتياز أي القوة الخلاقة التي لا ينفذ عن بصرها أي شيء.. حتى التفصيلات الحياتية التي تبدو تافهة ولكنها بالنسبة للكاتب هي عين الأدب لأنها منه وفيه، فقد سافر العجيلي كثيراً واختبر الآخر ليس فقط من موقع المثاقفة ولكن من موقع الندية والتبادل في الرؤى والتطورات بعيداً عن مركب النقص الذي اخترق جيل الخمسينيات من خلال فعل الدهشة الذي تحول إلى صدمة واختراق لليقينيات الجاهزة.. والعمر الطويل للعجيلي حسب الأعرج أعطى لتجربته قدرات تعبيرية حية وفرادة جعلت منه أحد أكبر كتّاب الرواية العربية الواقعة بين حافتي الواقعية والرومانسية في توليفة لم تكن من انشغالات الرواية الغربية التي بنيت على الرفض النظري المسبق.

من جهته يرى الناقد العراقي محمد سالم سعد الله عن (ارتحال النص) وهي دراسة في الخطاب الروائي لعبد السلام العجيلي ويرى أن إبداع العجيلي يأتي في عرض خطابه الفكري والنفسي والفلسفي من خلال صياغات فنية استوعبتها المساحة في جنس الرواية ولم يأت ذلك الإبداع عن طريق حمله للمضمون المجرد وإنما جاء إبداعاً شكلياً أيضاً يتجلى في البناء الهيكلي الفني المحكم، ذلك البناء الذي حاول توظيف التقنيات الروائية بشكل يبرز جماليتها كل واحدة في موضعها، ويضيف: ينتمي نص العجيلي السردي إلى مرحلة فلسفية وسياسية مثلت مراحل فاصلة في حياة الشعب العربي ونقلت صوراً واقعية وأخرى خيالية ويأخذ رواية (قلوب على الأسلاك) مثالاً فيجد: أن هذا العمل يتسم بتقديم تسلسل زمني ممتد وارتحال أحداث متوالية وشخصيات اجتماعية ومهنية ومثقفة وشخصية رئيسة ومرتحلة لا تمتلك سر النجاح في ضم القلوب والوصول معها إلى نهاية سعيدة ولذلك تعلق (قلب طارق) الشخصية المحورية بأحلام لم تتحقق، بأحلام بدأت مع الحب ومرت بمشروع التليفريك وانتهت بالرجوع إلى نقطة الصفر، انه حلم مرتحل!!.

الدكتور إبراهيم خليل من الأردن يقول عن شعرية الأمكنة في أرض السياد والتفاعل

بين الأمكنة والشخوص شيء دائم ومستمر في الرواية، مثلما هو دائم ومستمر في الحياة، والمكان لا يقتصر على كونه فضاءً تقع فيه الحوادث، إنما يؤدي دوراً حيوياً في مستوى الفهم والتفسير والقراءة النقدية.

قسّم غالب هلسا الأمكنة إلى أنواع ثلاثة هي: المكان المجازي، وهو أقرب إلى الافتراض، كخشبة المسرح، والمكان الهندسي وهو المكان الذي يظهر من خلال وصف الروائي، والمكان المعيش، وهو المكان الذي عاش الروائي فيه..

في رواية أرض السيّاد يتجلّى لنا المكان بالمعاني الثلاثة، حيث يقارب الكاتب بين الأمكنة في البقعة النائية في المركز، وقرية السياد، وبين الأماكن الأثرية في حلب، ويلخص ذلك كلّه بالقول: لقد استطاع التكالب على المادة أن يحول الماضي إلى ماضٍ مشوه، والأرض إلى بؤرة صراع مع أن بالمستطاع وصل الحاضر بالماضي، وتحويل العالم الذي نعيش فيه إلى فردوس أرضي..!

كأنما الكاتب يبكي على الأطلال في ذكره للأماكن القديمة والأحياء الشعبية، والآثار الدارسة التي ما تزال تحتفظ ببعض ما كانت تتميز به من فن رفيع... ثم إن المقابلات بين الأماكن المتباينة المتناقضة، المترفة والمرفهة من جهة، والفقيرة، ومن جهة أخرى إنما يعبر عن الصراع الطبقي، وانعدام التكافؤ الاجتماعي، وهذا ما يقوله المكان وحده. اتخذت أرض السيّاد من المكان أداة للتعبير عن ارتباط الحاضر بالماضي، وعن الصراع بين المستغِلين والمستغَلين، وعن العلائق بين بيئة وأخرى، واتخذت كذلك من المفارقة أداة للتعبير عن الفوارق الطبقية، وأداة للتشكيل الجمالي، سواء من خلال السرد وتبادل الأدوار، بين السارد العليم، والسارد المشارك.. ناهيك عن أن الأمكنة تركت أثراً جليّاً في عرض المؤلف لمادة الحكاية، واللغة التي كتبت بها الرواية، ولاسيما الحوار.

يؤكد الدكتور محمد عبيد الله أن فن الرواية القصيرة عند العجيلي مبيناً تعدد ومنابع التفرد عنده، ومنها: لغته المتأنقة وهذه تحتاج إلى دراسة أسلوبية خاصة، تكشف سر العلاقة بين الأديب ولغته، ومنها المناخ وخصوصية التجربة فقد طوع الفنون السردية للتعبير عن تجارب دقيقة صعبة.. ثم يتحدث عبيد الله عن الرواية القصيرة قائلاً: في مجموعته المعنونة ب(مجهولة على الطريق) نجد عبارة تجنيسية واضحة على الغلاف تصف مكونات الكتاب بأنها القصص قصيرة وطويلة وإذا كان الجزء الأول من العبارة (قصص قصيرة) يبدو واضحاً في دلالته على نوع محدد من الإنتاج السردي، فإن (قصص طويلة) يبدو أقل وضوحاً فهل يشير إلى وصف لطول القصة بمعنى أنها قصة أولاً، لكن حجمها طويل، مقابل قصير في النوع الأول، فالفرق هنا فرق في الحجم أو عدد الكلمات والصفحات.. أم أن تسمية (قصة طويلة) تشير إلى نوع سردي مختلف عن (القصة القصيرة) وعن أنواع أخرى، وخاصة نوع (الرواية) التي كانت تسمى أو سميت أحياناً (قصة طويلة) في صورة اختلاط عشوائي في التسميات وهو اختلاط يتجاوز في التجربة العربية، مجرد الأسماء إلى تشويش في فهم طبيعة الأنواع الأدبية ومسببات تجنيسها وتمييزها.

وهكذا شكلت الرقة ذاكرة العجيلي فكانت المضمون والخلفية المذهلة في أدبه وأحاديثه وفجرت فيه قدرة الكتابة والإبداع مثلما كونت فيه الإنسان فحملها في داخله إلى مشارق الأرض ومغاربها وهي البلدة الصغيرة المنفية في أقصى الشمال على شاطئ الفرات وأحضرها في كل قصصه ورواياته ومقالاته وأحاديثه ومحاضراته ونشرها في الدنيا، كلاهما محب للآخر وله سطوة عليه وكلاهما وفي للثاني ويسكن ذاكرته فقد اختارته نائباً في المجلس النيابي عام 1947 وهو الشاب اليافع تعتبره طبيبها الوحيد ورغم العدد الكبير من أبنائها الأطباء المختصين بكل الأمراض فقد كشف عليها حين كانت صبية يافعة وقد وثقت بالعجيلي منذ ذلك التاريخ لأنه الأقرب إلى قلبها.

ymarhassan@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة