Culture Magazine Monday  01/10/2007 G Issue 218
سرد
الأثنين 19 ,رمضان 1428   العدد  218
 
قصة قصيرة
في ضيافة رجل متعب
عبدالواحد الأنصاري

 

 

قال تعالى: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

لا أحد أثقل من ضيوف النهار، ولكن أهلا بكم: غرست أعواد البخور الرخيصة، فقتلت روائح الفحم والشواء التي تصل من مناور جاري الذي ليست له في حد علمي إلا هوايتان: الغناء والشواء. بدلت انطباعات الوجود المادي في شقتي لكي يكون لائقا بكم، واستعددت لأن يكون العشاء دسما، وأصابت هذه الحمى المرأة، فلمعت أباريقها ودلال قهوتها، وكذلك فرنها، وسحبت المنشفة على رخام المطبخ، وبثت رائحة الفلاش في المغسلة ثم لطفتها بالمطهر، ورأى الطفلان هذا فطويا ألحفتهما ورصا ألعابهما وقصا أظافرهما كأيام المدارس، وشعرا بجو احتفالي كجو العيد. مرحبا بكم في مسكني، باب شقتي هو الباب الأوسط بين ثلاثة أبواب بيض مقابلة تماما للصيدلية، في مبنى تعلوه ثلاثة دشوش متوجهة إلى الغرب مع ميل إلى النجمة السماوية الجميلة التي تنتظر زيارة القمر كل ليلة، ومعه النجمة المرافقة له، النجمة التي يسميها بعض الناس مزيونة وبعضهم سراية، المدخل هو افتتاحية معبر ضيق طويل، مفروش بالكامل بمشمع بني تقعقع عليه كل أنواع الأحذية، وتلتصق بعالقه أقدام الحافية، ولذلك فإن رائحة عرق الأقدام فيه غالبة على رائحة البول، التي لا أدري من أين جاءت. أمامك باب خشبي بمقبض معدني مذهب كأبواب فصول المدارس. هناك يجدني من يشاء، ويجد صبيا وصبية وزوجة وقطة وعصفورين ملونين ألوانا ربيعية من النوع الذي يسمى عصافير العشاق، وهما كذلك، لا يطيقان أن تمضي لحظة دون أن يتبادلا التمسح بالرقبة والعين واللعق بالمنقار وكأن في هذه الفعلة قيمة غذائية ضرورية كالأكسجين والماء، العصفوران محبوسان في قفص متأرجح وتحتهما قطعة كرتون مقلوبة ظهرا لبطن، تستقبل ذرقهما اليومي، معهما في الغرفة عروس أرجوانية الرجلين والفستان، بأنف مجدوع. ها نحن، عمارتنا تقف على مقربة من الوادي، وفيه تقوم أشجار معمرة ومساحات زراعية تفوح بالغبار الأهوج، وكلها تحولت الآن إلى ملاعب كرة ترشها صهاريج الوايتات. أشجار الوادي المعمرة بقيت حية داكنة الخضرة؛ بفضل أزمة المجاري المنحدرة من الحي المكتظ، وهكذا تكون فمصائب قوم مثلنا عند الشجر فوائد لا تقدر بقيمة. في وسط المزارع قُلُب مهجورة، بعضها لا يزال جذعه معلقا فوقه، هذه الآبار المدفونة طبطبت بالأسمنت وأصبحت مسابح شبابية ارتجالية لا حارس لها ولا مشرف، وغالبا ما تكون مهاجع للكلاب. إذا لم يجدني أحدكم هنا فسيكون ذلك خلال ثمان ساعات من العمل، أقضيها في مبنى تجاري، هنالك تتجاور مكاتب تجارية غامضة، وأشدها غموضا مؤسستي، ليس أثقل الأوقات عندما يبدأ العمل، بل عندما تعض على أذنك عبارة تقول لك: غدا ستعمل! وحتى إن كان الوقت جميلا فإن انتظار الغد السيئ سيجعلك تعيشه بكآبة. جاري أيمن لا يفصلني عنه إلا عدادات الكهرباء الثلاثة، ألتقط النفس وأبتلع ريقي وأقول: يظل جاري في بيته من غروب الشمس حتى الثامنة صباحا، يقضي سائر ليله يلاعب أطفاله ويغني لهم، لا ينام ولا يدع أحدا ينام، يقلد الأصوات، يصيح في أي وقت بمقطع تلفزيوني أو غنائي؛ يرفع صوته بسذاجة محشش وطيبة صوفي. عندما أقابله خارجا أتخيل أنه أقل بشاشة، لأن له شاربا ثخينا، ونظرة ميتة، وجسم غول، ولعله لا يدري بوصول صوته إلينا ويظن كالنعامة أن صوتنا وحده هو الواصل إليه. زوجته تتجر على خلاف النساء، تنقش رسوما بديعة على ظواهر وبواطن الأكف بالحناء السائلة، وتجني خمسين ريالا للمرة الواحدة، وتصنع تبيع حلاوة الشعر، ثلاثة أكواب كبيرة من السكر المذاب، يصب معها ليمون، تسمى الحلاوة، وتلصق بالجلد المراد إزالة شعره، فتنزعه من أصوله، تاركا آثارا حمراء متقطعة كحساسية طويلة، وعلبة منه بثلاثين.

من قال إن لليل ميزته؟ ما الجديد في الليل، أنا أبو الليل، وأبو استلام العمل الليلي، أستلم مكتبي قبيل المغرب بقليل في الشتاء، وبعده بقليل في الصيف، من السادسة والنصف إلى الثانية والنصف. وهذا ما يجعلني أهتف بأن فوائد الليل سطحية، فمثلا: تستطيع أن تسمع ما تشاء من الأغاني الرومانسية، ولن تعاني من الزحام في طريق العودة في وقت السحر، لكن الأخطر أن السكارى، والمحببين، (بباء مكررة)، والأزواج المهجورين، والعزاب، قد ينتقل أحدهم من طرف الخط إلى الطرف الآخر متسببا لك بحادث تافه لكنه قاتل، والموسيقى توقعك في الشرود والشعور بالأمان، وذلك فخ مميت آخر، كل هذا يعادل زحام النهار خطورة إن لم يعادله نكدا! ما الحل حينما يكون زجاج السيارة نظيفا صافيا ومع هذا فالأنوار الصفراء في الشوارع العمومية مشوشة كالشموس، تدهمك حكة مؤذية على جانبي الجبين فوق الحاجبين، وتلاحظ أن الطاقية لها ضغط مؤذ كمساكات الشعر، أحس لوهلة أنني طفلة ذات شعر قصير مشدود على جانبي رأسها الأماميين. الذين يعملون نهارا ينامون ليلا، ولهم الحق في النوم الهانئ، يتذكرون الكوابيس في السنة ويعدونها على الأصابع، أما الذين يكدون في الليل فأمامهم أن يتخلصوا من كوابيسهم ويستيقظوا أولا قبل أن يرجعوا إلى النوم ثانية ويهدأ بالهم، يبدأ نومي الأول، في قنطرة ما بين الثالثة والخامسة فجرا، وكله كوابيس، تنتابني في الوقت الذي يحاول جسمي وجهاز مناعتي التحرر من أثقال الدخان الذي ملأ رئتي، ومن الشاي الذي لعب في أعصابي، والهم الذي أقلق ليلي، والوجبة المريضة التي أكلتها في الساعة الثالثة صباحا فأقلقت جهازي الهضمي. في ستة الأشهر الأخيرة تعودت على هذه الحال، أصبحت أصحو من الكابوس، أمسح صدري من عرقه، وانقلب وأنام، وإذا لم أنم حتى شروق الشمس فتلك أغرب الحالات: أرى في البدء لون شروقها الباهت على حيطان البيوت، وكأنها مسحة صفراء من سائل الفيري تنزلق على صحن أبيض، عندها أشعر بأن في رأسي ليلا ونهارا يتصارعان، وأكون أشبه بشخص واقف، نصفه في الظل ونصفه في الشمس. الحركة في الليل تحيي العواطف وتمنحك سلاما مع الذكريات، شريطة أن تكون متنزها أو متسوقا. لكن الأمر مختلف وأنا أعمل في غرفة ستة أمتار في ستة، مع سبعة وأنا ثامنهم. أحيانا أقول إن مشارف الثلاثين هي السن التي يحصحص فيها الحق؛ إذا كنت ما تزال تحمل الأحلام الجميلة فإن الرجال الذين عرفوا الحياة بمفاهيمها المجردة سيغادرون مائدة صداقتك، وإن كنت من هؤلاء الذين كبروا واستيقظوا فستغادر موائد الحالمين؛ تنامت عقليَّتي الجديدة، وانفلت الهواء من بالونة أحلامي.

عدت من المكتب قبيل الفجر ورحت أستحم، وصاحت زوجتي: إما أن جيبك مشقوق لسبب لا يعلمه إلا الله، أو أنك لا تعمل. صرخت من تحت المروش: وكيف لا أعمل ودوامي ثمان ساعات في مقبرة الوقت. ترد بصياح أعلى والناس نائمون: لقد أذن الفجر وأنت ما تزال تستحم. وهي صادقة، فقد سمعت حنة فظننتها صوت سخان الماء، وهكذا هو الأذان في الحارة، يسمع من بعيد، وله حنة مثل صوت سخان الماء.

زوجتي صادقة في كل شيء، فقد انتقلنا إلى هذه الشقة بأثاثنا القديم، تلف السرير وتخلخل لوحه القائم من جهة الأقدام، وخشيت أن ننهض من نومنا في يقظة غير كاملة فتغيب مسامير اللوح المقلوب في أقدامنا. خططت للمشكلة بهدوء، وفي صباح من صباحات الانسجام، قلت لها: واحد اثنين ثلاثة، ورفست اللوح رفسا مزدوجا وأنا جالس على السرير، وضحكت، ورفسته معي ضاحكة هي الأخرى، نهضنا وانهلنا على السرير تحطيما، ورأى ولدي نشارة الخشب الإيطالي الأخضر فسأل مذهولا: من أين جاء هذا الغبار؟ من السقف؟ وضحكنا. طويت الطراحة المهترئة كالقماش طي الورق، وحملتها على مرأى من مشاة العصر وكومتها في الزبالة، وحشرت أخشاب الغرفة في المخزن كصفوف الصلاة، وفي آخر الشهر ذهبنا للسوق الشعبية واشترينا طراحة نفر ونصف للغرفة الخالية، ومفرشا بثمان قطع، وأشركنا الطفلين معنا فكان لهما نصيبهما، وطراحتان ومفرشان، أربعة أحذية اثنان منهما تركيان واثنان سوريان، وشباصات وربطات، وبديل لزيت الشعر، وحب للعصفورين، وكرة قدم نطاطة، ومزيلا للعرق من نوع الرول المتزحلق على الإبط، وشمعة زرقاء خافتة لشاعرية الحب، وللجدار المحاذي للمطبخ ساعة بيضاء ذات برواز أسود. هكذا تضمحل نقودي السحرية شيئا فشيئا، وأبيت في ألحفة رخيصة قاسية كالورق، مكشكشة زاهية كصفحات الجرائد الجديدة، ستظل المفارش هكذا عدة أيام في انتظار أن يلينها الاستعمال فتصبح ألحفة مقبولة الملمس. أزاحت زوجتي الطراحة الجديدة وفرشتها بالعرض لتكون رؤوسنا تحت المكيف مباشرة وأقدامنا قصية في الجهة الأخرى، فتبدى انبعاج الغرفة الذي أخفته في السابق طريقة امتداد السرير، رأينا ذلك ولم نشعر بأنه يهمنا، فبتنا راضيين.

مرحبا بكم في بيتي، هآنذا بعد أن غادرت مدائن الحالمين أخذت المشرط، وقسمت الناس إلى فئتين: فئة الدلع، المتربعة على عروش الحظوظ. وفئة الطمع، التي تقيم أودها بخدمة فئة الدلع أو تحاول الصعود لتنضم إليها. هكذا فكرت قبل سبعة أشهر فقط، في اليومين اللذين نصحت فيهما أمي زوجتي أن تهجرني لعلي أصحو من الغي القديم وأحسن أوضاعي. إنه صيف العقارب، ويحق لي تسميته بذلك، لأني لم أعترض على تسميتهم للشتاء والربيع الفائتين بعام المطر، السماء أوسعتهم مطرا، وقبوي أوسعني في هذا الصيف عقارب صفراء صغيرة، في التنانير، وزنوبات الحمام، وفي طيات سجادات الصلاة. في النهار يعرف الناس أن كل شيء يجري في أوانه، ولكن ما إن تدركك الساعة الحادية عشرة ليلا وأنت قابع على المكتب حتى يتوقف كل شيء وتبدأ لعبة الانتظار السرمدية في ذلك السديم الأجوف، تلك هي وصمة الليل الأبدية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة