الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 1st November,2004 العدد : 83

الأثنين 18 ,رمضان 1425

ما بين طرفي نقيض..!!
أمل زاهد
في هذا الشهر الكريم الذي يحل علينا ضيفاً خفيفاً يفاجئنا بذهابه قبل أن نستوعب قدومه، ويتملص من بين أيدينا قبل أن نأنس بمجيئه، يتساقط علينا الغثاء الفضائي آناء الليل وأطراف النهار، محاولاً استقطاب المتلقي وجذبه إلى مجال تأثيره بكافة الطرق والوسائل التي يلمح فيها قدره على إشعال اهتمامه أو تحريك مكامن إثارته. وفي خضم هذه المعركة التي تتقاذف فيها الفضائيات المتلقي كالكرة في ملاعبها، لا يملك هو إلا أن يفغر فاه دهشة وهو يمتطي جهاز التحكم عن بعد متنقلاً بين ساحاتها ومشاهدها المتشابهة في الملامح والتفاصيل والمواضيع.. محاولاً البحث علّ حظه يساعده في أن يحظى بجديد يحرض تفكيره ويستثير عقله أو أن يصادف موضوعاً يتمكن فيه العمل من مس وجع الإنسان العربي، ومن أن يضع يديه على مكامن ألمه وما يسرق النوم من جفنيه.. بعيداً عن جعجعة المزايدين على العروبة والدين وهرباً من التلوث الضوضائي الذي تدور رحاه في ساحات برامج الحوار السياسية.
وتتحرك برامج الفضائيات غالباً ما بين قطبين لا ثالث لهما، وهذان القطبان يرسمان تقاسيم وملامح وجهين متوازيين متعاكسين، يتأرجح فيهما المشاهد بين الشيء ونقيضه، ويتنقل من حافة الإغراق في اللهو العابث والتسلية التافهة إلى ساحات الفتاوى ومجالس الوعظ، ومن أحضان الدراما المسطحة ورؤيتها الساذجة للخير والشر والمتدفقة عليه بكافة الصور والأشكال، إلى أكناف المساجد وتراتيل الآيات وتهدج الصوت بالدعوات. ومن قنوات الأغاني المنحلة التي تمطر علينا بما يندى له الجبين وما تنفر منه الفطرة السوية إلى برامج الفتاوى بأسئلتها الموغلة في تسطيح الدين واستلاب الشعائر من أهدافها الأساسية ومن جوهرها النقي.
حتى صارت شعيرة الصيام على سبيل المثال محضناً للوسواس القهري، فتنحصر أسئلة المشاهد غالباً في التفاصيل الصغيرة القشورية التي تعيث في نفس الصائم قلقاً وتساؤلاً عن كمية لعابه وعن الحكم إذا ابتلعه!! وعن
القطرة التي يضطره لوضعها مرضه!! أو الحقنة التي يحتم عليه مرض السكري أن يأخذها!! بينما يتوارى الهدف الرئيسي والجوهري من الصيام إلى آخر قائمة اهتمامات الصائم. وتنحصر هذه العبادة في أطر تضعها بين قضبان مفاهيم مسطحة لا تفهم من الصيام إلا شكله ولا يستطيع هو من خلالها أن يبوح بأسراره العميقة وبأهدافه السامية التي شرع كي يحققها على أرض الواقع. ولو شاهدت هذه البرامج والأسئلة التي تثار غالباً بين جدران فقراتها لرأيت المضحك المبكي، الذي يثير الأسئلة المقلقة والمزعجة عن ماهية الأمراض التي يعاني منها العقل العربي والذي يأتي على رأسها ذلك الميل المثير للدهشة، للبحث عمن يفكر له ومن يتبعه ويقتفي أثره ومن يلقنه حتى في صغائر الأمور التي يفترض أن تدله عليها فطرته وأن يستلهمها من حسه.
والمتلقي الذي يحاول الهرب من حمى الفتاوى التي تنهك كيان المجتمع وتسري في جسده، وتحول أفراده إلى جوقة من المفتين المتحدثين بلسان الدين، يجد نفسه مرمياً في أحضان البث الفضائي بشقيه المتنافرين المتباعدين، خاصة بعد أن تم على يدي هذا البث اختطاف العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي كانت تميز شهر رمضان الكريم.
والتقلب بين النقائض والملحوظ بقوة في الفضائيات يعبر عن حالة نفسية مرضية تعاني منها المجتمعات العربية، ويعكس وضعاً بات واضح المعالم جلي الملامح في كل الأقطار العربية، وهو انحسار الشريحة الوسطية المتوازنة وندرة تواجدها بين طبقات مجتمعاتنا، واختفاء الإسلام المعتدل المتجسد في أفراد لا يتمسكون بقشور الدين على حساب جوهره ولا يتشبثون بظاهره غير مبالين بحقيقة مبادئه. وأن خريطة المجتمع يتنازع على رسمها تياران، ويقوم كل منهما بتلوينها بلون مغاير ومخالف لذلك الذي يستخدمه الآخر، ويقذفان بها من أقصى الشرق تارة الى أقصى الغرب تارة أخرى.
والحقيقة ان كل من هذين الاتجاهين هو صنيعة الثاني وأنه يتكاثر ويتناسل من رحم الآخر. فلولا وجود التيار الديني المتشدد الذي يحصي على الناس أنفاسهم ويصعب عليهم ما يسرته الشريعة الإسلامية السمحة، ويدعوهم إلى ماضوية يوتوبية ترفض العصر وتنفر من مواكبته مع استحالة خروجها من حدوده الزمنية، لما وجد التيار الآخر الهارب من أي رابط يشده إلى الدين أو يربطه بتعاليمه، وفي أحيان كثيرة يتقلب الفرد نفسه بين هذين التيارين المتعاكسين ليصبح ردة فعل تناطح وتناهض ما كانت تتبناه بالأمس، وترفض وتنبذ المبدأ الذي طالما رفعت سيفها دفاعاً عنه. فهذه البرامج الهابطة التي يزخها علينا البث الفضائي ليست إلا صورة شائهة من صور الرفض لتعقيد الدين وردة الفعل المجافية للمنطق السليم لما يقوم به الجناح الآخر. كما أن القنوات الدينية هي الأخرى ردة فعل يحاول بها التيار الآخر أن يشن الحرب على ما يقدم في قنوات الهلس، وقد تنجح في استقطاب عناصر الفئة الأخرى فتتم بذلك عملية غسل وتبييض الأفكار التي كانت تنتهجها سابقاً. وما بين حجري الرحى يطحن الفرد العربي غير قادر على المقاومة، فقد اعتاد أن يقف مكتوف الأيدي أمام الريح التي تشده وتوجهه إلى هنا تارة وإلى هناك تارة أخرى.
وبينما تظهر نتائج استفتاء أجرته إحدى الفضائيات العربية أن 89% من المشاهدين ضد تقديم البرامج والسهرات الفنية في رمضان، نرى أن هذه البرامج هي الأوفر حظاً من متابعة الجماهير وهي التي تقوم على ساعديها سوق الإعلانات.. ومن داخل هذا التناقض لابد أن يرتفع سؤال يقفز طالباً الإجابة: فهل اعتاد الإنسان العربي على النفاق وعلى إظهار ما لا يبطن؟ وركن إلى الشاطىء الآمن الذي يلوذ به خوفاً من لوم اللائمين واعتراض المعترضين؟!! أم أن الاستفتاءات العربية ليست إلا صورة للانتخابات العربية التي تظهر دائماً تلك النتيجة المعروفة سلفاً 99.99%؟؟!!


amalzahid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved