الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 02th May,2005 العدد : 104

الأثنين 23 ,ربيع الاول 1426

قصتان قصيرتان
أحمد الدويحي
(1)
الدّية
ضوء صغير يتسلل إلى غرفة صغيرة حقيرة عارية باردة الجدران، لم يُبصر بها موطئ شمس منذ ثلاث سنوات، ليُكتشف صباح اليوم شريط الذاكرة.. صورة و(منلوج) صوت داخلي لحياة كاملة.
مضى يتخيل عجزه في حضن امرأة حلم بها طويلاً، وبأن تنجب له من يحمل اسمه ونسله ونسبه، رأى شرفه المهدر ورجولته المقتولة بركلة بين فخذيه من ضابط وسيم مزهواً بنجمة.
شكل الضوء صورة عاكسة لسيرة تمر في ذاكرته، انغمس حتى يستطيع بتجرد قراءة وجهي (العملة)، جذر قضية بسببها دفن في هذه الغرفة المزرية سنوات، سرح للحظات يتمرغ في سرير دافئ حُرم منه عنوة، رأى حرمه الشابة فلم يستطع أن يتمل من وجه بيضاوي صغير وديع، بيت النيّة أن يعتقها في الدنيا، عسى أن تجد في هذه الحياة من يعوضها عجزه ويعوضه بالآخرة، فقبله ساعات يقف فيها في مواجهة (السيّاف)، فقد فات لعن الشيطان وخرجت رصاصة انتقام قاتلة إلى رأس ضابط وسيم مزهو بنجمة، كانت معلقة على كتفيه كرأسه المنتظر على حبل مشنقة فقد رفضت الدية، سمع صوت مفتاح زنزانة سيودعها إلى الأبد فرفع رأسه وتحسس عنقه.
دخل غرفة مكتب جانبية يدفعه شرطي، رافقه مرات في خروجه مكبلاً إلى مكاتب التحقيق والمحاكم، وتبرع بنقل أخبار المفاوضات الفاشلة ليحظى بالبشارة.
نفس وجوه ضباط عرفهم عن ظهر قلب.. انتبه لامرأة تخرج من بين المكاتب بينهم وتتلفع بالسواد واقفة في وجهه، وتسأله مباشرة:
أما وقد خلصتم أنتم من التحقيق.. فخلاص لو سمحتم تعطوني فرصة أسأله وحدي فلماذا قتلت زوجي ويتمت أطفالي يا رجل..؟
الشيطان .. الله يخزيه..!
وتوقف الكلام بين شفتيه المرتعشة، مرت لحظة كأنها الدهر لم تعد مساحة لكلام يدون، ولم تعد مساحة لمساعٍ من شيخ قبيلة أو ثري أو فاعل خير لتبذل، فرفعت المرأة صوتها متسائلة، وقائلة:
وهل صرنا معاً عجزة.. لقد قبلنا بالدية..!!
حُسمت نهاية قضية عاشت في محاضر التحقيق، سيرة امرأة ترعى شيخاً مسناً مشلولاً وفاقداً للذاكرة، وترسم بعناية خطى جديدة لبنتين وولد، وقيل إن الضباط فرحاً أولموا تلك الليلة.
(2)
رحلة رقم (719)
إذ أدفع بحقيبة السفر ذات العجلة الوحيدة، فقد كسرت العجلة الأخرى لكثر ما دارت على مطارات الأرض، لتعبر فوق لسان السير الأمني في المطار المحلي، وقد استبقيت في يدي رواية لأقرأها في لحظات الصمت القاتلة، وأحتفظ بداخلها ببقايا أوراق تذكرة السفر، ويمضي في أثري رجل أعرفه تمام المعرفة ويكبرني بعشر سنوات، تمضي في أثره فتاة جميلة سافرة الوجه، تلف جسدها الممشوق بعباءة سوداء لا تخفي البنطلون المنشور، لتتدلى خيوطه فوق قدمين لبست تحتهما حذاء كعب عال، وسرقت خفية النظر إلى يديها فلاحظت خلوها من صبغة (الحناء)، زينة صبايا تلك البلاد فضمرت في نفسي تقديراً، لرجل يشبهني كثيراً مدني في طفولتي وشبابي بكتب وروايات عديدة، لم ألتفت أبداً إلى الوراء، لتخترق في نفس الوقت عيني الحاجز الزجاجي في الداخل، فلاحظت في داخل صالة السفر صديقين قديمين، فمضيت مسرعاً إليهما لأهرب من حالة خجل، داهمتني فجأة وعلى غير موعد!
أحد الأصدقاء قدم لي فنجان قهوة، وجذبني وقد تأكد من شرودي، ليعرّفني على (أحمد) شقيق الصديق المسجون، وعرفا معاً الآن سبب ارتباكي، فقال مداهناً:
لماذا الخجل.. ليس من سبب يدعو إلى هذه الحالة..؟
وهربت من حالة الخجل تلك إلى دورة المياه، أغسل وجهي وأدخن سيجارة قبل أن يعلن عن إقلاع الطائرة إلى مدينة جدة، فوجدت الرجل الذي أقدره كثيراً، يقف خلفي وحيدين في مواجهة المرآة بالحمام، ويحاورني:
لماذا لا تذهب إلى الرياض كالعادة..؟
لدي رحلة عمل لمدة يومين في جدة، قبل أن تنتهي إجازتي ومن ثم السفر إلى الرياض..؟
إذاً سأوكل إليك مهمة تعتبر نفسك فيها مكاني، تتصرف في كل شيء..؟!
قلت له بذات الرهبة، وذات النظرة المفعمة بالاحترام:
لقد رأيتك من لحظة وقفت فيها خلفي في بوابة الدخول.. وبسبب رؤية امرأة تتبعك وخجلي لئلا أحرجك، لم أستطع الالتفات إلى الوراء لمواجهتك..!!
ضع نفسك مكاني.. لقد وصيت بدوري عليك كما أوصيك الآن بها، أنت رجل أسمر مميز بيدك رواية..؟
سمعت صوت منادٍ من ميكروفونات المطار، يدعو المسافرين إلى الاستعداد للدخول إلى بوابة السفر، فاختفى الرجل الذي أحبه في غمضة عين، وسبقني إلى بوابة الخروج كل من صديقيّ، فلحقت بهما في سلم الصعود إلى الطائرة، ورأيت في مدخل الدرجة الأولى المرأة الجميلة، تحتل الكرسي الأول من الدرجة الأولى فرفعت صوتي بالسلام لأشعرها بوجودي، رد أحد المضيفين السلام ومرحباً وتناول قصاصة تذكرتي، مشيراً إلى الكرسي المخصص لجلوسي، وصادف أنه بجانب رفيقيّ السفر في نهاية مقاعد الدرجة الثانية، ربطت الحزام مسقطاً عيني على حروف صحيفة، وجدتها في مكان مسافر تركها قبلي ومضى، ووضعت مكانها روايتي وبداخلها بقايا تذكرة السفر، وأصغي لحديث رفيقيّ السفر وذاكرتي ترحل بسرعة إلى مدينة جدة، تستعرض أسماء الفنادق والشقق المفروشة المؤهلة، لاستقبال ضيوفها الجدد دون أن تحفل باهتزاز الطائرة، وتحذير مكرر بعدم فك الحزام، ومغادرة الكرسي.
فشلت في تحديد أي مكان مؤهل منها، بسبب عدم وجود سجل عائلي يجنبنا المسائل الأمنية، بات علي استعراض أسماء أصدقاء، يستطيعون الإقامة مع ضيوفهم الجدد، وخطر في بالي فجأة أن رفيقة دربي الجديدة ربما تكون أكرم مني، وتفاجئني بضيافة غير منتظرة بعد تحليق خمس وثلاثين دقيقة في السماء، لتهوي بنا الطائرة في مطار جدة، ويتحول البحر في عيني إلى سراب، كنت أول مسافر يخرج من ركاب الدرجة الثانية، ليلحق بركاب الدرجة الأولى، ولأنصب قامتي الممدودة ووجهي الأسمر في باب القدوم، أشعل سيجارتي الأولى، وأضع روايتي مضمومة إلى صدري كعلامة مميزة، تنفيذاً لوصية الرجل الذي أحبه، فتناسل المسافرون واحداً تلو الآخر، دون أن تكون بينهم المرأة الجميلة ممشوقة القوام، انتبهت بعد مضي فترة طويلة إذ لم يبق أحد غير حقيبتي، ذات العجلة الوحيدة تدور منفردة فوق سير العفش، فأخذت أسحبها، وصوتها يجلجل خلفي.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved