الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 02th October,2006 العدد : 173

الأثنين 10 ,رمضان 1427

ليو ستروس والكتابة المضطهدة (1)
سعد البازعي

طرح اسم ليو ستروس في الآونة الأخيرة وعلى نحو مكثف في وسائل الإعلام الأمريكية بوصفه مفكراً ترك أثراً على اتجاهات السياسة الأمريكية في عهد جورج بوش الابن، وظهرت كتب كثيرة ومقالات أكثر تتناول دور ذلك المفكر الفيلسوف على من عرفوا بالمحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية ومراكز البحث المؤثرة.
فالمعروف هو أن ستروس كان أستاذاً للعديد من الشخصيات التي عرفت بالانتماء إلى تيار المحافظين الجدد مثل بول ولفووتز المساعد السابق لوزير الدفاع الأمريكي وإرفنغ كريستول وجورج ول وغيرهم عندما كان أستاذاً للفلسفة السياسية في الأربعينيات والخمسينيات في جامعة شيكاغو.
لكن هذا الجانب من نشاط ستروس ليس ما أنا معني به هنا، وإنما هو جانب آخر قد يكون متصلاً بذاك، لكن له أهميته المستقلة.
وللتعرف على ذلك الجانب الذي يشير إليه عنوان المقالة ينبغي أولاً أن أعرّف بستروس وإن باختصار لاسيما أنه فيما يبدو لي ليس من المفكرين المعروفين على الساحة الفكرية العربية، قياساً على أسماء أخرى في الفكر الغربي الحديث ترجم لها الكثير وشاع تداولها.
ولد ستروس عام 1899 لعائلة ألمانية يهودية، وحين جاء النازيون إلى الحكم في ثلاثينيات القرن العشرين هاجر مع عائلته إلى خارج ألمانيا ليستقر فترة في بريطانيا ثم ليحمل الجنسية الأمريكية ابتداءً من عام 1937 حيث عمل أستاذاً، كما سبقت الإشارة، في جامعة نيويورك ثم شيكاغو حيث قضى حوالي عشرين عاماً وأنتج أهم أعماله، مثلما خرج بعض أشهر تلامذته ممن ورد ذكر بعضهم.
في أعماله، كما في تلامذته، اشتهر ستروس بموقفه المحافظ تجاه المتغيرات الفكرية والاجتماعية التي اجتاحت الحضارة الغربية منذ بدء العصر الحديث، أي في القرن السابع عشر، ففي أشهر كتبه وهو (الحق والتاريخ الطبيعي) الصادر عام 1951 ينتقد ستروس انفصال الفكر الغربي عن جذوره اليونانية لاسيما فيما يتعلق بالقيم والنظرة إلى الإنسان.
فمنذ عصر النهضة، وبالتحديد مع مفكرين مثل مكيافيللي وهوبز انحرف الفكر عن النظر إلى الإنسان بوصفه كائناً متصلاً بالطبيعة متناغماً معها وحلت محل ذلك الفردية والبحث عن المصلحة الذاتية والنسبية، كما انفصلت الوقائع (أو ما يسمى أحياناً حقائق facts) عن القيم.
ويرى ستروس أن حل تلك المشكلة لا يتحقق إلا بالعودة إلى الفكر اليوناني قبل حدوث الانفصام المشار إليه.
في أعماله الأخرى، ومنها (حول التسلط) 1948 و(ما هي الفلسفة السياسية؟) 1959 تتكرر الأطروحات لكن من زوايا مختلفة.
غير أن ستروس رغم أطروحاته تلك لا يعد من الفلاسفة أصحاب الأطروحات الكبرى، أو النظم الفلسفية، مثل كانط وهيغل وقبلهما أفلاطون وأرسطو، وإنما هو من المعلقين على الفلسفة والفكر أو المحللين للنتاج الفلسفي والفكري عموماً، وهو في مسألة التعليق والتحليل قارئ متميز ومحلل رفيع المستوى يصعب أحياناً فهم ما يرمي إليه.
ففي كتابه (حول التسلط) نجده يعلق على محاورة للفليسوف اليوناني زينوفون، كما أنه يفعل الشيء نفسه في كتب مثل (أفكار حول مكيافيللي) و(الفلسفة السياسية لهوبز) ويخرج برؤى مهمة يصعب على القارئ غير المدرب أن يستوعبها.
من الأعمال التي تكشف جانب التعليق والتحاور مع أفكار الآخرين كتب لستروس يتناول فيها ليس الفلسفة اليونانية فحسب وإنما فلسفات قلما اهتم بها المفكرون الأوروبيون، مثل فلسفة ابن ميمون والفلسفة الإسلامية.
ولستروس كتاب مبكر حول ابن ميمون عنوانه (الفلسفة والقانون: إسهامات من أجل فهم ابن ميمون وسابقيه) 1935 إلى جانب أعمال أخرى تناولت ذلك المفكر اليهودي الذي عاش في الأندلس ومصر في القرن الحادي عشر الميلادي.
وقد جمع ستروس بعضاً من أهم أطروحاته حول أولئك الفلاسفة في كتاب عنوانه (الاضطهاد وفن الكتابة) صدر عام 1952 وهو الكتاب الذي أود التوقف عند بعض ما جاء فيه، لا لأهمية الموضوع الظاهرة في العنوان فحسب وإنما لأنه أيضاً يتناول ذلك الموضوع في سياق قراءة لبعض الفلاسفة المسلمين مثل الفارابي وابن سينا إلى جانب فيلسوفين يهوديين هما ابن ميمون وسبينوزا وفلاسفة يونانيين من الأسماء المعروفة.
والحق أن كتاب (الاضطهاد وفن الكتابة) مكرس في مجمله للفلاسفة أو المفكرين اليهود ولا يعدو نصيب الفلاسفة الآخرين أكثر من بضع صفحات، لكن تلك الصفحات على قلتها مهمة لأنها تختصر الأطروحة الأساسية للكتاب حول صلة الكتابة بالاضطهاد.
قبل التفصيل في تلك الأطروحة المثيرة تجدر الإشارة إلى أن ستروس ينطلق في أطروحته من تجربة شخصية للاضطهاد، شأنه في ذلك شأن كثير من المفكرين والكتاب اليهود (اليهود بالمعنى الإثني/ الاجتماعي وليس بالمعنى الديني).
فأفراد جيله من المفكرين والكتاب، مثل حنه أرنت (أو أرندت، كما تكتب أحياناً) وفالتر بنيامين وغيرشوم شولم، عانوا هم الآخرون من الاضطهاد على يد النازية غالباً، غير أن ستروس تفرد في التأمل في دلالاته البعيدة وتأثيره على النتاج الفكري بشكل خاص.
وإذا كان الغرب اليوم لا يعير الاضطهاد اهتماماً يذكر على المستوى الداخلي لانتشار الديمقراطية واتساع مساحات التعبير، فإن مناطق أخرى في العالم جديرة أن تصغي لما يقوله مفكر مثل ستروس عانى الاضطهاد مباشرة وقرأه في سجلات الفكر الإنساني، علماً بأن الربط بين الاضطهاد والإنتاج الفكري من خلال الكتابة مهم للجميع لأنه يتضمن قراءة تاريخية من زاوية مثرية ومثيرة في الوقت نفسه.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved