الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 03th January,2005 العدد : 90

الأثنين 22 ,ذو القعدة 1425

عبد الله عبد الجبار والتيارات الأدبية
د. عبد العزيز السبيل
شرف أعتز به، حين يتاح لي الحديث عن ناقد كبير، أُجِلُّه وأُكبره، لريادته التنويرية، ولتميز طرحه، وحفره المعرفي في جزيئات علمية دقيقة. أما عبد الله عبد الجبار، الإنسان فيتسامى خلقاً وتعاملاً. حين مطالعة تراث هذا الناقد الرائد، يجد المرء أنه صاحب اهتمامات مختلفة في مجال السرد كتب العديد من الأعمال، منها مسرحية (الشياطين الخرس) (1954)، و(العم سحتوت) وهي تمثيلية إذاعية عصرية (1954)، وقصة (أمي) (؟)، في سلسلة (قصص الجيل الجديد). وفي إطار الرؤى الفكرية أصدر كتاب (الغزو الفكري في العالم العربي) (المكتبة الصغيرة؟) وخصص جزءاً كبيرا من هذا الكتاب للحديث عن اللغة العربية. ومن أشهر كتبه كتاب (قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي) (1958)،الذي ألفه بالاشتراك مع محمد عبد المنعم خفاجه، ويربو على سبعمائة صفحة. وحين أصدر إبراهيم فلالي كتاب المرصاد، كتب عبد الله عبد الجبار مرصاد المرصاد. كما قدم للعديد من الأعمال الأدبية.ارتبط اسم عبد الله عبد الجبار (1920) بكتابه الشهير (التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية) (1959). والسؤال الأول الذي يستوقف القارئ هو مسمى الكتاب. فعلى أي أساس جغرافي تم الاعتماد، لإيجاد دلالة للقلب هنا، علما أن الكتاب يتناول الأدب في المملكة العربية السعودية.هل تأتي هذه التسمية لأن معظم أطراف الجزيرة (اليمن عمان، جنوبا، ودول الخليج شرقا) خارج إطار الدراسة، فبقي من الجزيرة قلبها، أم أن الاسم الحديث، لهذه المنطقة الذي تمت صياغته في بداية الثلاثينيات، لم يتبلور بعد في أذهان الدارسين والقراء، خصوصا وأن الكتاب ألقي محاضرات في معهد الدراسات العربية العالية بالقاهرة؟ أم أن ثمة مبررات تاريخية وسياسية يحكمها زمن التأليف والطباعة، والناشر؟ هل لأن الكتاب يبدأ زمنيا قبل مرحلة التوحيد؟ أو بسبب أن مسمى الجزيرة العربية له دلالة تاريخية وثقافية كبرى، ويرتبط بشكل أساسي بتأكيد المؤلف دائما على الحس العروبي؟ أسئلة تكبر وترتفع. غير أن من المهم التأكيد على أن اسم المملكة قد ورد كثيرا في الكتاب، بصيغ مختلفة.
والكتاب، كما يؤكد مؤلفه، أول كتاب في هذا الموضوع. ويضيف (حسبي أنني وضعت معالم ومشاعل على الدرب يهتدي بها الدارسون). وكأنه هنا يؤكد جانبا تنويريا حرص على البدء به. يبدأ المؤلف كتابه بمقدمة تأخذ حيزاً كبيراً من الكتاب، وهي مقدمة تتميز بطريقة عرضها، واحتوائها جوانب تاريخية وجغرافية، وسكانية تتصل بالقبائل وتوزيعهم جغرافياً. ثم الحديث عن العادات والتقاليد. واتسم هذا الجزء من الكتاب بالشمولية المعلوماتية حول المملكة العربية السعودية، وهو أمر ندرأن يوجد في كتاب واحد، وإذا كان أحد الأسباب الرئيسة أن الكتاب أو المحاضرات تقدم لغير أبناء المنطقة، فإنه مرجع مهم لأبناء الجزيرة أيضا. ولذا، فإنه يجدر الالتفات إلى ما يحويه الكتاب من معلومات غير أدبية، ذات قيمة علمية. القارئ لهذا الكتاب تستوقفه بشكل ملحوظ الموضوعية المتزنة، في سرد أحداث التاريخ وخصوصا بعض القضايا الحساسة ومنها قضايا الإخوان، وابن رفادة، وحزب الأحرار الحجازيين.
حين الحديث عن الجوانب التنويرية في الكتاب فإنه يصعب حصرها. وهي رؤى تنويرية لا يقدمها عبد الله عبد الجبار، لكنه يسجلها، ويحتفي بها لأنها تتوافق مع رؤاه وفكره، ويشعر أنها جديرة بالاحتفاء. قد يبدو ملفتا للنظر، البحث عن مسائل تنويرية في زمن سالف، وسجلها كتاب صدر قبل خمسة وأربعين عاما. لكن الحقيقة تكمن أن
المجتمع كان يعيش حالة من التنوير في جزئيات تتصل بالرؤية والمجتمع، وهي تختلف من منطقة إلى أخرى، خلال فترات تاريخية مختلفة. غير أن كثيرا منها قد اختفى نتيجة تأثيرات وتأثرات تعليمية أو اجتماعية، وأحيانا سلطوية. ولذا، فإن تسجيلها والعودة إليها والتذكير بها، ربما يكون عامل دفع لمستوى أكبر من التنوير.
يفصل عبد الله عبد الجبار في قضية يختلف حولها النقاد، وتتصل بميلاد الأدب الحديث في قلب الجزيرة العربية. فهو يرى أنه انطلق يوم السبت التاسع من شهر شعبان 13341916، مع انطلاقة الثورة العربية من مكة المكرمة.
يتوقف عبد الجبار عند الرمزية في الشعر ويشير أن الأدب في الجزيرة (يطرق الدروب الملتوية، ويتسلل في السرادب الخفية ليعبر بصورة أو بأخرى عما يعانيه من كبت وحرمان). وكأن الرمزية يلجأ إليها لعامل خارجي. فهي رمزية يتجه إليها الشعراء، ليس من منطلق فني ورؤية نقدية، وإنما لظروف الأوضاع السياسية والاجتماعية. فهي رمزية تغليف لا رمزية مذهب. ويورد نماذج شعرية، ويكشف عما فيه من رموز. وهي رموز تعبر عن رؤية القارئ الناقد. ولذا، فإن كشف الرموز يأتي من منطلق رؤى وأفكار عبد الله عبد الجبار، ذي الهمِّ الوطني والقومي، ومن خلال كشف الرموز يؤكد الرغبة في أفق أكثر رحابة للتعبير.
حين الحديث عن التيارات الأدبية وهو الموضوع الرئيس للكتاب نجد أنه جاء خاتمة للكتاب، وأفرد له المؤلف مائة وخمس عشرة صفحة، من بين صفحات الكتاب، التي بلغت ثلاثمائة وستاً وسبعين صفحة. وكأن المقدمة الطويلة قد أخذت معظم الكتاب. التيار الرئيس الأول الذي تناوله هو التيار الكلاسيكي، ويجعله ثلاثة أنواع: الكلاسيكية الميتة، وبين بين، والكلاسيكية الحية. وحديثه عن المذاهب، يأتي بناء على وعي نقدي، يتضح من خلال المقدمات النظرية للتيارات الثلاثة التي وقف عندها؛ الكلاسيكية، والرومانسية، والواقعية.
خلال الحديث عن التيارات الأدبية، يعتمد بشكل كبير على تقديم الأمثلة، وبعض الرؤى النقدية في بداية النص أو نهايته. وفي معظم الأحيان لا يدخل في تحليل النص الشعري بشكل تفصيلي، بقدر ما يؤكد ويبرر ويقدم رؤية منهجية لتحديد انتماء هذا النص لتيار أدبي معين.
التيار الواقعي هو التيار الذي يأخذ الحيزالأكبر من الكتاب، وكأنه هو الموضوع الرئيس. وأن الحديث عن التيار الكلاسيكي، ثم الرومانسي يأتي بصفته توطئة للوصول إلى التيار الواقعي. وقد جاء الحديث عن هذا التيار أكثر تفصيلا لأنه التيار الأشمل، الذي يمكنه أن يستوعب آراء وأفكار عبد الله عبد الجبار. وهي أفكار لا يعلنها صراحة، وإنما تبدو بوضوح من خلال اختيارته الشعرية، وتأكيده على معانيها، وكشفه عن بعض رموزها. ويدعم ذلك حماسه الأكثر حين الحديث عن التيار الواقعي، وإذا كان الشعر
الثوري يمثل مظهرا من مظاهر الواقعية، فإن عبد الله عبد الجبارأشار بتأكيد كبير أن هذه الأفكار لا تقوم على الرؤية الواقعية الأيديولوجية. فهذه الأفكار لا تأتي انعكاسا (للأفكار الجديدة، وألوان الإصلاح الزراعي والعمالي التي انتشرت في بعض البلاد العربية فحسب، وإنما استندوا كذلك إلى ما يسمونه بالاشتراكية الإسلامية، ويطيب لبعضهم أن يعززوا آراءهم الاجتماعية بالقرآن الكريم وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم). ويورد عبد الجبار الكثير من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية والأقوال المأثورة التي تنتصر للفقراء. ويؤكد في موقع آخر على مسألة أحسبها مهمة جداً، وهي أن هؤلاء الأدباء ينكرون بعض أفكار الواقعية (فعلى رأس ما ينكرون الإلحاد الذي لا يتواءم مع عقائدهم الدينية). ولا يبدو أن هذا يأتي من منطلق الحماية والاحتراز، وإنما من باب تقرير الحقيقة.
في حديثه عن التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية لم يكن عبد الله عبد الجبار معنيا بالجوانب الفنية كثيرا، بل كان تركيزه الدائم على موضوعات الشعر وقيم معانيه وتوجه أصحابه. ولذا، فهو يقدم القصيدة بما تحتويه من رؤى وأفكار، وقد يختمها بتعليق مشابه، يعكس رؤيته. وإذا كان إغفال الجانب الفني يبدو جليا للقارئ، فقد كان الأمر واضحاً في ذهن عبد الله عبد الجبار نفسه. وهذا ما جعله يقدم اعتذاره في نهاية الكتاب، حيث يقول ما نصه (كان اعتمادنا في دراسة هذا الموضوع البكر على العرض الأدبي، أكثر من اعتمادنا على النقد الفني، ذلك لأن التوسع في النقد الفني سيكون مجاله دراسة بعض الشخصيات الأدبية التي حال ضيق الوقت بيننا وبين تناولها).
عبد الله عبد الجبار رائد الاتجاه الواقعي في النقد، دون ريب. ولكن من الصعب الجزم بوجود مدرسة نقدية واقعية،أو حتى وجود نقاد بنفس المستوى من الحماس في تبنيهم لهذا المنهج. ولا يبدو أن هذا الاتجاه قد دخل خلسة، إلى منطقة الجزيرة كما يشير عبد الجبار، بل تم تبنيه بوعي من قبل هؤلاء الشعراء. عنوان الكتاب (التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية) قد يبدو خادعا، لأنه اقتصر على الشعر. غير أن الصورة ستبدو أكثر وضوحا حين نعرف أن عبد الله عبد الجبار قد كتب الجزء الثاني من تياراته وخصصه للنثر، وتحديدا فن المقالة، وتناول فيه العديد من الشخصيات. والكتاب في كثير من جوانبه المتصلة بالتيارات الأدبية يبدو مشابها للتناول الذي حدث في الكتاب الأول، غير أن الجزء الثاني لا يزال مخطوطا. أما لماذا لم يطبع، فذلك سؤال أتركه للراسخين في العلم، وجناية أخرى ربما يتحملها اسم الكتاب أيضا، فالكثيرون يعتقدون أنه كتاب يناقش قضايا أدبية، واتجاهات نقدية. والحقيقة أن أكثر من نصف الكتاب لا علاقة له بالأدب، وإنما يؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ المملكة العربية السعودية. ولا يكتفي بالجوانب التاريخية السياسية فحسب، بل يمتد الاهتمام إلى جوانب أخرى تتصل بالتعليم والصحافة والمكتبات. وفوق ذلك القبائل والعادات والتقاليد، مما يمثل تسجيله وعيا وتنويرا مبكرا. خصوصا أنه لا يسجل معلومة محايدة بل إنه كثيرا ما يقدم تعليقات تنبئ عن وعي وحكم نقدي على الحياة والأشياء منذ وقت مبكر.
أخيراً، يقول نبيل راغب في كتابه (أصول التنوير الفكري: دراسة في منهج عبد الله عبد الجبار) (تبدو أصول التنوير الفكري عند عبد الله عبد الجبار متدفقة من منبع واحد، بحيث تشكل منظومة فكرية واحدة ذات عناصر متفاعلة تفاعلا عضويا، سواء تمثلت في التنوير الحضاري أو الاجتماعي أو الثقافي أو النقدي الأدبي).
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved