الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 03th January,2005 العدد : 90

الأثنين 22 ,ذو القعدة 1425

(الرائد).. ورؤيته الفكرية والتربوية والنقدية
د. محمد صالح الشنطي
لم يكن عبدالله عبدالجبار في كتابه (التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية) مجرّد ناقد يقارب ألوانا من الشعر وفق مقاييس محددة، ولا باحث يسعى إلى تقصي الواقع الأدبي ودراسة واستخلاص ظواهره، وإنما كان رائداً يرتاد أرضاً بكراً، ومُعلّماً يسعى إلى تزويد طلابه بالمعرفة، فيقدم لهم باقة من المعلومات التي سعى إلى استكشافها بنفسه، ومفكراً اجتهد في تفسير الظواهر وفق منهج وجد نفسه مضطراً إلى اختياره حتى يضبط معارفه ويقنن دراسته.. ولهذا فإن الحديث عنه لابد أن يركز على منطلقاته الفكرية والمنهجية بوصفه رائداً، خصوصاً ان عبدالله عبدالجبار حدّد غرضه من تأليف كتابه وقيّده بأمرين: الأول إشارته إلى أنّه يهدف إلى التعريف بأدب مجهول، وهذا يؤكد ما ذهبتُ إليه من انه أراد أن يكون معلماً مفكّراً، فلا يمكن تقمّص شخصية المعلم دون قاعدة فكرية. أما الثاني، فيتمثل في إشارته إلى المنهج حين تحدث عن رغبته في أن يضع (معالم ومشاعل يهتدي بها الدارسون)، وهذه المعالم تتمثل في الأسس المنهجية التي سار عليها، مؤكدا ريادته بتأكيده على انه يمهد للدارسين بعده مفتتحاً مشروعهم المستقبلي.
وللوقوف على رؤيته الشاملة عن منظورها التاريخي وسياقها الثقافي لابد من الاطلاع على مجمل إنتاجه ممثلاً في: كتابه (قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي) الذي ألّفه بالاشتراك مع محمد عبدالمنعم خفاجة، وكتابه (التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية)، وكتابه المخطوط الذي يعتبر تكملة (للتيارات) وهو يحمل العنوان ذاته مع عنوان فرعي (النثر: فن المقالة)، ومقالته التي كتبها تحت عنوان (أديب)، وكتابه (الغزو الفكري في العالم العربي)، وبعض المقدمات التي حرّرها مثل مقدمته لكتاب (موانئ بلا أرصفة)..
والكاتب عبر هذه المؤلفات يكشف عن وعي حضاري نهضوي يقظ بغض النظر عن المضمون المعرفي لهذه الكتابات، ودون مبالغات من حاولوا انصافه بتضخيم منجزه الثقافي والفكري، أو الايغال في نقد منهجه وتَصيُّد المآخذ عليه.
ولعل رؤيته ذات البُعد التاريخي اول ما يلفت الانتباه إلى منظوره الفكري، فمن الواضح اهتمامه بدراسة البيئة الأدبية بالحجاز عَبْرَ فَهْمِ المكوّنات الطبيعية والبشرية والحضارية، وعنايته بفهم السلالات البشرية، وذلك في إطار يوحي بالرغبة في استكشاف العلاقة العضوية بين هذه المكونات وتأثيرها في الإبداع، وهذا ما دفعه إلى الإطالة في المقدمات التاريخية والجغرافية في كتابه (التيارات)، إذ أنفق ما يقرب من ثلثي صفحات الكتاب في التمهيد لموضوعه، ولكن لا ينبغي ان نغفل عن حقيقة بالغة الأهمية، وهي عن المنهج البحثي الذي كان سائداً في تلك الفترة في الأوساط الأكاديمية.. كان المنهج التاريخي العربي اصطنعه كبار النقاد والباحثين، وكذلك طلبة الماجستير والدكتوراه ابتداء
من طه حسين في كتاباته عن الشعر العربي القديم والنثر العربي، مروراً بتلامذته من مشاهير أساتذة الجامعات والمفكرين مثل: سهير القلماوي وشوقي ضيف ويوسف خليف.. ولو اطلعنا على ما كان يحرّر من بحوث في تلك الحقبة خصوصا الاطروحات التي كانت تقدم لنيل درجة الماجستير أو الدكتوراه لوجدناها في مجملها تنحو هذا المنحى، حيث الإطالة في المقدمات التاريخية والجغرافية والاجتماعية.. فقد كان عبدالله عبدالجبار منسجماً مع هذا الاتجاه؛ لأن المرحلة التاريخية برمتها كانت منشغلة بالجدل حول الماضي وأهميته في انبعاث النهضة الحديثة، فضلاً عما كان يتدفق من كتابات تعمّق هذا الحس من روافد خارجية وداخلية مختلفة وموظّفة لخدمة رؤى وايديولوجيات تؤسس لوجودها في الساحة الأدبية. ولم تكن تحليلاته لما أسماه بالحزب الهاشمي والأموي بعيدة عن هذا النسق المنهجي، وكانت نزعته الفكرية التأصيلية شديدة الوضوح في حديثه عن أهمية اللغة العربية ودورها في تشكيل الوجدان العربي الواحد، وهو إذ يولي العناوين الرئيسة للقضايا الفكرية والأدبية اهتماماً كبيراً فإنه لا يغفل التفاصيل ليعمّق رؤيته لهذه القضايا.. من هذا المنطلق جاء تتبعه الدقيق لحركة الصحافة وما تضمنته من محاور فكرية اشتد الصخب حولها عبر معارك عبّرت عن حراك اجتماعي وثقافي مبكر، وفي تقصيه للمؤسسات الثقافية ورصدها، من مكتبات ومنتديات ومدارس ما يدل على هذا الحس اليقظ الذي كان يَعْتَدُّ بالإرث التاريخي الثقافي كمكون من مكونات الإبداع.
وأما شخصيته التربوية التي هي امتداد لموقفه الفكري فتتمثل في حديثه عن صفات المواطنة التي تتكئ على مقومات ثلاثة: الدين والانتماء الأسري وحب الوطن، ولكنه لا يعالج هذه المسائل المهمة معالجة سطحية تقليدية، بل يربطها بالشخصية الإنسانية بوصفها كلا متكاملاً بعصرها وما يتسم به من موضوعية علمية، مما يومئ إلى حس تنويري حضاري.. غير ان اللافت للانتباه حقيقة تنبهه إلى الوسيلة التي يمكن من خلالها ممارسة هذا المنحى التنويري بعيداً عن التلقين، إذ يرى ان المادة المعرفية ينبغي ان تتحول إلى مكوّن عضوي يسري في النفس، رافضاً بذلك الطريقة التقليدية التي سادة في مرحلة ماتعتمد على طريقة الأذن والذاكرة، كما أشار إليها محمد عبده مستبدلاً بها منهجا تربويا آخر يعتمد على الفكر والوجدان، لافتا إلى أهمية التنمية الثقافية.
وهو يقف موقفاً فكرياً وسطياً في كتابه (الغزو الفكري في العالم العربي)، وفي حواره النقدي والفكري مع بعض رموز الثقافة العربية النقدية من الساعين إلى التحديث من منظور حضاري يتكئ على الثقافة الغربية التي يمارسون عبرها نوعاً من القطيعة مع التراث العربي القديم تارة، وتفسيره وفقاً لرؤية عصرية يرتؤونها تارة أخرى، لنقده لقصيدة الشاعر والناقد الدكتور (كمال أبو ديب) في عددين من أعداد مجلة مواقف (العدد 17 و18) وهي تحت عنوان مرثية العالم القديم، مركزا نقده على مفهوم اللغة في الشعر، وفي الوقت الذي يدعو فيه إلى إنشاء موسوعة عربية لمقاومة التيارات الأجنبية الوافدة والحفاظ على الطاقات الفكرية والحضارية الكامنة في اللغة العربية الفصحى يحذر من تغلغل الخرافة في الثقافة العربية وفي المناهج المدرسية.. وعلى الرغم من ان هذا الطرح يحتاج إلى شيء من التكامل والتماسك بوصفه رؤية فكرية حضارية تربوية فإن تنبه عبدالله عبدالجبار لضرورة المواءمة بين التراث والعصر يعتبر ادراكا مبكرا لأهمية الوعي التاريخي بمعطيات المرحلة في مختلف مستوياتها.
على أن دوره كناقد لا يمكن إغفاله البتة، فهو يكمل دور المفكر والتربوي، فقد حاول ان يدرك أدبيات النقد الحديث ومصطلحاته، وعلى الرغم مما يبدو من رؤيته المحافظة في نظرته إلى المدارس الأدبية الحديثة، فإنه لم يرفض التعامل النقدي معها وان حاول تطويعها وبدا متعسفا في تصنيفاته لها بعض الشيء، ولكن يحسب له انه قارب النصوص من خلال فهمه لمصطلحاتها ووعيه بأن هذه المدارس إنما كانت إفرازاً لواقع اجتماعي ومراحل تاريخية في أدب أي أمة من الأمم.
وأحسب أن الناقد قد حاول أن يتخفف من أعباء ما يمكن أن يوجه إليه من سهام النقد، فعمد إلى استباق ذلك بإشارته إلى ان التعامل مع هذه المذاهب بوصفها تيارات محددة المعالم يبدو اسطورة أو شبه اسطورة كما يقول، ومع ذلك فلا مناص له من الحديث عنها بوصفها نزعات فردية أو جماعية ضيّقة على حد تعبيره.
وأظن ان تسميته هذه المدارس بالتيارات فيه غنى عن هذا الاحتراز؛ لأن مفهوم التيار يومئ إلى أن أمد هذه الاتجاهات ليس راسخا ولا محددا، ولا تعدو ان تكون موجات تبدو على السطح دون ان يكون لها تجذّرها في التربة الأدبية، ولكن ذلك لا يعفي الناقد من رصدها ومقاربتها.
وبغض النظر عمّا وجه من نقد لاستشهاداته الطويلة من النصوص، ومن اجتهاده المعرفي في توصيف بعض التيارات دون التقيد بالمعايير النقدية العلمية، فإن عبدالله عبدالجبار قامة نقدية وفكرية وتربوية رائدة، وللريادة سماتها ومنزلقاتها واخطاؤها، ولكن يظل دورها عصياً على الجحود والنكران، وتظل جديرة بالحفاوة والتكريم والتقدير.
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved