تقاسيم من مقام الكورد
غازي أبو عقل
|
في واحدة من جلسات الهَبْرَمَة التي تجمعنا بين يوم وآخر، أتى واحد من الحضور على ذكر القضية الكوردية، متسائلاً عن سر تعمد اتفاقية سايكس بيكو تفريق الأكراد أيدي سبأ، لما رسمت خرائط تقاسم تركة العثمانيين على الرغم من تعهد الغربيين المنتصرين يومئذٍ، الحفاظ على حق تقرير المصير لشعوب المنطقة؟.
علق أحد الحاضرين رابطاً المسألة بالنفط، ومؤامرات بريطانيا التي كانت تعرف وجوده في العراق من أجل الاستيلاء على المناطق التي يحتمل فيها العثور عليه، وخيانة وودرو ويلسون رئيس الولايات المتحدة آنذاك لمبادئه، وخلافات المنتصرين الذين اتفقوا أخيراً على تقاسم الغنيمة، كما هو معروف (تعود اتفاقية سايكس بيكو إلى 1916).
ظل بعضنا غير مقتنع على الرغم من إدراك أهمية النفط في صنع مصائرنا كما جاء في الأرجوزة الجغرافية الشهيرة:
وانْظُرْ إلى أوضاعِنا بالضّبْطِ مِن تحتِها تَجِدْ عُروقَ النّفْطِ
غامر واحد آخر قائلاً: أظن أن السيدين مارك سايكس وجورج بيكو، كانا يحاولان إدراك ثأر لهما مع الكورد، وهما يرسمان خرائط الشرق الأوسط لقرن قادم، وما كان مسلسل أحداث التاريخ غريباً عن النتائج، فالتقطا الفرصة التاريخية التي لوحت لهما لكي يمنعا هذه الكتلة البشرية المتجانسة، والمقيمة في قلب المنطقة، من التجمع مجدداً في كيان سياسي، ربما يحمل من المخاطر ما لا يريده أحد، لا من المنتصرين ولا من المهزومين ولا من بعض الكورد أنفسهم، ولا شك بأنهما تذكرا كيف أنجبت هذه الكتلة أمراء الجيوش وجنودها، ومنهم نجم الدين أيوب وشقيقه شيركوه من قبيلة رواند اللذان جاءا بقرار من نور الدين في الموصل، واحتلا حلب ودمشق، ثم أنهيا الفاطميين في مصر، حيث توفي شيركوه (الاصفاح سالار) أي القائد العام، وتولى صلاح الدين بن نجم الدين القيادة باسطاً سلطانه على ليبيا والسودان والحجاز، لإقامة التوازن الإستراتيجي مع الغزو الأوروبي الذي جاء لتخليص الأماكن المقدسة من أيدي الكفار، استثمر صلاح الدين هذا التوازن الجديد، ولم يكتف بإنهاء مملكة القدس الإفرنجية في 1187، بل قام بما هو أكثر أهمية، حين جابه منتصراً جيوش الحملة الصليبية الثالثة، بقيادة فيليب أوجوست ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك انجلترا وجيوش فريدريك باربروس امبراطور ألمانيا، وقضى على أحلامهم بالعودة إلى القدس أمام عكا في أكتوبر من العام 1189.. لذلك كان من الأمور المنطقية بقاء ذكرى هذه الهزائم في اللا وعي الأوروبي، والدليل ما قاله القائدان العسكريان البريطاني اللنبي والفرنسي جورو عندما احتلا القدس ودمشق في الحرب العالمية الأولى 1918: نحن أحفاد الصليبيين فأين أحفادك يا صلاح الدين؟.. تعالت بعض الأصوات بالموافقة على هذا (التحليل)، ولم يخل الأمر من معترضين.
سارع الزميل الجالس قربي إلى (استثمار) جو التعاطف الذي هيمن على الحضور، وطلب دوراً للإدلاء برأيه وفاجأنا بأن تعاطفه مع الأكراد لا يعود إلى أسباب حربية بل إلى أسباب مناقضة كلياً، ولما صمت الجميع منتظرين معرفة السبب، بدأ يحكي بتؤدة كأنه يتلو نصاً حفظه عن ظهر قلب...: بين القرنين السابع والتاسع الميلاديين، اعتنق الأكراد الإسلام، ويقال إن نصاً مكتوباً بالكوردية عثر عليه ويعتبر من أوائل النصوص المكتوبة بهذه اللغة هو أبيات من الشعر تصف أعمال العنف والإكراه التي واكبت الغزو العربي يومئذٍ، وعلى الرغم من هذه الأحداث قدم الأكراد إسهاماً أصيلاً ومهماً في آن إلى الحضارة الإسلامية من ناحية عسكرية كما أسلف الزميل الذي افتتح الموضوع، وهذا ما لن أتوقف عنده ثانية، ومن ناحية أكثر أهمية حضارية، في مجال الموسيقى.. فالمعلم الكردي ابن مدينة الموصل إبراهيم الموصلي 743 806 أدخل الموسيقى إلى بلاط هارون الرشيد، هذا الفن الذي ما كان مرغوباً في عصور الإسلام الأولى كما أسس أول معهد لدراسة الموسيقى التي تحمل سمة المعرفة المعمقة المعهد الذي يسمونه اليوم بالفصحى كونسر فاتوار.. وطور ابنه إسحاق الموصلي تلك الموسيقى ووضع لها القواعد بالإضافة إلى أن واحداً من مريديهما زرياب وهو كردي أيضاً، انتقل للإقامة في بلاط قرطبة حيث أسس معهداً موسيقياً ونشر تعاليم أستاذيه في إسبانيا والمغرب.
خيّم صمت على الحاضرين، قطعه المتحدث نفسه مضيفاً: أنا متعاطف مع الموصليين وزرياب تعاطفاً لا حدود له، ولن أدع المناسبة تمر دون أن أعبر عن اشمئزازي العميق من السادة مارك سايكس وجورج بيكو وودرو ويلسون.. ولكل من يحاولون اليوم قضاء أوقاتهم في رسم الخرائط .. خرائط مشاريع حدود تسجن الناس لقرن قادم، وربما لأكثر.. إلا إذا توحد الأكراد من جديد، لكي يعيدوا الأمور إلى نصابها.. يومها سوف يكون لكل حادث حديث.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
| 
