الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th April,2006 العدد : 147

الأثنين 5 ,ربيع الاول 1427

دراجة الماغوط

*سعد البازعي:
الفوز المتأخر، والمتأخر جداً، لمحمد الماغوط بجائزة العويس للشعر هذا العام يجعل من المهم أن يستعيد النقد، ذائقة ورؤية ووعياً، ذلك الحضور الشعري المبهر في الكثير من قصائده ليعوض تقاعس بعض الجوائز عن الوصول إلى من يستحقها. وحين يكون لتلك الاستعادة بعدها الخاص أو الشخصي فإن الأهمية تتضاعف لأنها لا تغدو واجباً ثقافياً فحسب، بل تنتقل إلى حميمية الذاكرة والتجربة، إلى لحظات الاكتشاف والدهشة، إلى كل ما تتألف منه الأعمار الحقيقية لبعضنا.
كان ذلك حوالي منتصف الثمانينيات الميلادية حين استغرب بعض الأصدقاء من حجم دهشتي وأنا أدخل عليهم حاملاً المجموعة الكاملة للماغوط لأعلن عن اكتشافي شاعراً رائعاً وعجيباً كان من الواضح أنني بصدد تعريفهم به وقراءة بعض ما أعجبني من قصائده. وكان مما زاد حماستي للشاعر أنني وجدت لديه ما لم أعتد العثور عليه في الشعر إجمالاً، شرقيه، الذي أقرأه موروثاً، وغربيه، الذي أدرسه تخصصاً. ومع أنني كنت حينذاك أطور علاقتي بالمشهد الشعري والنقدي العربي الحديث، فقد بدا لي واضحاً أن السمات التي وجدت في قصائد الماغوط نادرة حقاً. فإلى جانب أشياء كثيرة مدهشة وآسرة لديه، توقفت طويلاً في تأملي لشعره عند عنصر الكوميديا، أو بالأحرى التشبيهات المضحكة. فالماغوط هو الشاعر الكبير الوحيد الذي أعرف أنك يمكن أن تجد له شعراً يضحكك إلى جانب ما يهزك أو يبكيك، يضحكك بقدر ما يفجعك. فأنت إذ تقرأه محتاج غالباً إلى الدموع، محتاج إلى تهيئتها، وللقصائد أن تحمِّلها ما تشاء هي من الدلالات.
حين كتبت مقالتي الوحيدة عن الماغوط بعد قراءتي له بسنوات، لم أجد عنواناً أنسب من ذلك الذي وظفه ناقد عربي طالما أثرى مشهدنا النقدي طوال السبعينيات من القرن الماضي قبل أن يعتزل الكتابة الأدبية، وربما النشاط الثقافي إجمالاً. أقصد نسيم الصمادي الذي يعرفه جيل السبيعينات والثمانينيات. في ذلك الحين كتب الصمادي مقالة نسيت موضوعها حين تذكرت العنوان ووظفته من جديد معيداً الفضل لصاحبه بطبيعة الحال. كان العنوان: (الضحك على الأطلال)، العنوان الذي جاءت المفارقة فيه مشحونة بالدلالة الغائبة عن السطح. فمن يستطيع أن يقرأ الضحك هنا معزولاً عن البكاء، البكاء الحاضر الغائب، الضحك - البكاء.
في شعر الماغوط الكثير من ذلك المزيج، تختصره صور مختلفة لكنها تتقاسم سمات محددة فيها المفارقة المرة والطرافة المضحكة. كما أن من تلك السمات الاتكاء المتكرر على بلاغية التشبيه. وقد وجدت مثالاً حياً لذلك في صورة تكررت في بعض قصائده، أقصد صورة الدراجة وهي تتخذ هيئات ودلالات مختلفة. خذ مثلاً ما يقوله في قصيدة بعنوان (حتى الأغصان ترتجف):
آه لو أن الأيام المتوالية
تنال من روحي وأصابعي وعيني
ما تناله السكين من الثمرة
والخريف من الأغصان
لأمسي طفلاً صغيراً بطول المدفأة
لأحرق العالم
وأصنع من رماده
كفناً لدراجة صغيرة أعرفها...

هذه الدراجة الصغيرة تصير رمز طفولة موءودة. لكن قبل الوصول إلى الدراجة هناك الوصول إلى الطفولة نفسها، أو استعادة الطفولة. فهذه الاستعادة تأتي نتاج عملية تناقض الاستعادة المعروفة الناتجة عن تمني عودة الشباب، المرتبطة بربيع الحياة. فالطفولة هي ربيع الحياة وزهوها وبهاؤها، لكنها هنا تأتي من خلال السكين والخريف إذ يعملان معاولهما تقطيعاً وتجريداً.

العودة إلى الطفولة تجيء عملية استعادة عنيفة بل ودموية. وحين تأتي فإن الطفل العائد ليس بين عينيه سوى هدف واحد هو حرق العالم انتقاماً لدراجة لم يرأف بها ولا بصاحبها أحد. فهي إذاً دراجة للبكاء على (وطن حزين...)

لنتأمل بعد ذلك صورة أخرى للدراجة نفسها وهي تأتي ضمن سياق مختلف جداً. ففي القصيدة الطويلة نسبياً، الطويلة بمقاييس الماغوط طبعاً، وعنوانها (مروحة السيوف) نتأمل ملحمة ساخرة لنسر عجوز يحاول الطيران ومعانقة العاصفة التي لم يكن يأبه بها في الماضي وما زال يظن نفسه قادراً على ذلك. والصور المتتالية للنسر والعاصفة من أكثر الصور التي قرأت إثارة للضحك والبكاء معاً، فهي مضحكة بحد ذاتها، ومبكية لما تلمح إليه من عجز كبير على المستوى الرمزي الذي لا يصعب الاستدلال عليه. فالناس في الصحراء لا يجدون ما يفعلون (غير انتظار العاصفة) التي لا يعلمون أنها هناك مترددة وراء الأفق البعيد كالبغي أمام عتبة الفندق. أما النسر العجوز آخر نسر في التاريخ فإنه ينتظرها وحيداً وصامتاً كالحوذي. ثم تتالى التشبيهات الكاريكاتورية، فالنسر كالحوذي مرة، وكالطاهي القديم مرة أخرى، يتذوق (فضلات السحب والعواصف الغابرة). أما منقاره (كإبهام الحذَّاء). إن النسر ضعيف ومتهالك، يترنح (كدراجة تعبر النهر).

تخيلوا هذه الدراجة التي تعبر النهر، كم هي مشحونة بالطرافة والكوميديا، وكم هي مختلفة عن دراجة الطفل التي تنتظر الدفن. هنا تقف الدراجة ضمن رموز أخرى لتدل على الهشاشة والضعف أمام النهر الجارف. إن الماغوط واحد من أساتذة قليلين لتقنية التشبيه في شعرنا المعاصر، تماماً كما هو البردوني. والتشبيه عند الإثنين يذكرنا بأن الاستعارة ليست سيدة الموقف دائماً، أن في المقارنة المعلنة بالكاف وبغيرها مخزناً يضج بالإيحاءات التي قد تفعل ما لا تفعل الاستعارة. تشبيه النسر والدراجة مجرد أنموذج لما يكتنز به شعر الماغوط من صور تضحك على الأطلال: (يا أهلي.. يا شعبي، يا من أطلقتموني كالرصاصة خارج العالم، الجوع ينبض في أحشائي كالجنين...) إن الماغوط يجد من الصعب كما يبدو أن يكتب سطرين أو ثلاثة، ولا أقول أبياتاً طبعاً، دون أن يرسم صورة تشبيهية: (وأنا في خريف العمر، والشيخوخة البيضاء بدأت تمس جبيني) كالياسمين الدمشقي عند كل منعطف...أو كما في مرثيته للسياب حيث لا تستطيع أن تكتم الضحك حتى في حضرة الموت:

يا زميل الحرمان والتسكع
حزني طويل كشجر الحور
لأنني لست ممداً إلى جوارك
ولكنني قد أحل ضيفاً عليك
في أية لحظة
موشحاً بكفني الأبيض كالنساء المغربيات

إلى أن يقول له: لاتضع سراجاً على قبرك .. سأهتدي إليه, كما يهتدي السكير إلى زجاجته ...) لينتهي المطاف, كما ينتهي غالباً في قصائد الماغوط عند عتبات الوطن الغائب المنهار : ( هل ترسم على علب التبغ الفارغة أشجاراً وأنهاراً وأطفالاً سعداء وتناديها ياوطني , ولكن أي وطن هذا الذي يجرفه الكناسون مع القمامات في آخر الليل؟ ) إنها صور في غاية الكآبة والسخرية المرة , مثلما أنها في قلب الشاعرية , صور يغيب عنها المألوف والرتابة , ويغيب عنها الوزن والقافية , لكن لايغيب الشعر.

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved