الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th April,2006 العدد : 147

الأثنين 5 ,ربيع الاول 1427

اعترافات العلماء في سيرهم الذاتية
الشيخ الطنطاوي نموذجاً «1»

*أحمد علي آل مريع:
فاتحة:
- (قال ابن حزم في طوق الحمامة صفحة 163:
ومن الناس من يقول: إن دوام الوصل يودي بالحب، وهذا هجين من القول، وإنما ذلك لأهل الملل، بل كلّما زاد وصلاً زاد اتصالاً.. وعني أخبرك أني ما رويتُ قط من ماء الوصل، ولا زادني إلا ظمأ، ولقد بلغت من التمكن بمن أحب أبعد الغايات التي لا يجد الإنسان وراءها مرمى، فما وجدتني إلا مستزيداً، ولقد طال بي ذلك فما أحسست بسآمة ولا أرهقتني فترة).
وقال عفا الله عنه: (وإني لأعرف من كان في جيد حبيبه بعض الوقص، فما استحسن أغيد ولا غيداء بعد ذلك.. وأعرف من كان أول علاقته بجارية مائلة القصر فما أحبَّ طويلةً بعد هذا...
وعني أخبرك: إني أحببت في صباي جارية لي شقراء فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر، ولو أنه على الشمس، أو على صورة الحسن نفسه، وإني لأجد هذا في أصل تركيبي، من ذلك الوقت، لا تؤاتيني نفسي على سواه، ولا تحب غيره البتة، وهذا العارض بعينه عرض لأبي، وعلى ذلك جرى إلى أن وافاه أجله).
الاعتراف مظهر من أبلغ مظاهر الصراحة، يتخطى فيه الكاتب حواجز الصمت، فيفضي بما يستره الناس عادة سواءً من الأخلاق أو السلوك. (ولن يكون الاعتراف اعترافاً في رأي بعضهم إلا إذا كان اعترافاً بأمر يغلب على الناس إنكاره وكتمانه.. فلا يفهمون من الاعتراف إلا أنه إعلان لخبيئة في النفس تشين صاحبها وتدعو إلى إخفائها...).
ولكن لفظة (الاعتراف) تحت وطأة النموذج (الاعترافي) الغربي والمفهوم النقدي الغربي اتخذت منحى خاصاً إذ ارتبطت بشكل مباشر بالجهر بالمخازي والفضائح - ولا سيما الجنسية منها - بكل صلافة وجلافة.
مع أن الكلمة نفسها واسعة شاملة تشمل هذا النوع وسواه من أوجه النقص الذي يسعى الفرد إلى ستره وحفظه بعيداً عن الأنظار، بل إن الأستاذ أحمد أمين -رحمه اللَّه- يراها -أي لفظة الاعتراف- أكثر اتساعاً وشمولاً، إذ يُفترض أن تشمل الحديث عن الفضائل والحسنات من غير تحرج أو مبالغة في التواضع.
ويؤكد كثير من نقاد أدب السيرة الذّاتية الغربيين على وجوب التعري التَّام عند كتابة السيرة، ويرونه رُكْناً مهماً من الأركان التي تقوم السيرة الناجحة والممتعة عليها.
وقد انساق أكثر نقادنا من العرب وراء هذه الرؤية دون تمحيص وتفكر، أو مراعاةٍ لما نشأت عليه مجتمعاتنا العربية والإسلامية من قيم دينية وأخلاقية سامية وتقاليد اجتماعية محافظة تميزنا من غيرنا من الأدباء والنقاد والمجتمعات في الغرب.
استطيع أن أفهم هذه الدعوة إلى التعري بالاعتراف الفاضح لدى الغربيين كُتّاباً ونُقّاداً، بصفتها امتداداً للتصور الكنسي للتطهّر من الشوائب والأخطاء التي تعلق بالإنسان خلال رحلته في الحياة، تسرَّبَ إلى الفكر الأدبي.
ولكن الذي لا أَستطيع فهمه ولا تقبله تلك الدعوات المكشوفة من قبل بعض نقادنا وأدبائنا إلى احتذاء النموذج الغربي في الاعتراف، كما لا أستطيع فهم تلك النزعة الغريبة إلى المقارنة بينه وبين ما يشيع من ضروب الاعتراف المحافظ في سيرنا قديماً وحديثاً.
والحقيقة أن ثمة فارقاً مهماً بين الأديب المسلم وغير المسلم في مجال السيرة الذاتية لم يُعْنَ ببيانه مؤرخو فن السيرة ونُقادها وكتابها، غير أننا نستثني واحداً وهو: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري.
ولا يستغرب ذلك من أبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري فهو إلى أنه أديب وناقد فقيه مشارك واسع الاطلاع يحمل شهادة عاليةً في العلم الشرعي.
ويرى أبو عبدالرحمن ابن عقيل في صدر: (تباريح التباريح) أن (الاعترافات لها تيارات في الشرق والغرب:
- تيار عند الشرقيين كلّه فاضل لأن سير أهله فاضِلة كحديث ابن تيمية عن نفسه وصراعه العلمي. وقد تكون اعترافات لا تتعدى اللمم وعمّا قبل الحلم، كما في طوق الحمامة لابن حزم. وفي نصاب ذلك اعترافات الصوفيّة والزّهاد في حكاياتهم عن تجاربهم النابعة من فيوضاتٍ إلهية.
- وتيار عند الغربيين يجهر بالسوء ويتبجح بالفضائح ويحكي ما يندى له الجبين..).
وينتهي ابن عقيل إلى أنه (يُفترض في كاتب السيرة الذّاتية أن ينقل الحقيقة عن حياته، والواقع الذاتي لنفسه وبيئته من خلال الأحداث الخارجية... إلا أن هذا المطلب عسير جداً قد يكون مُتعذّراً -وذلك أكثر من مُتَعَسِّر- عند الشرقي المسلم الذي أوصاه رَبّه بالستر على نفسه إذا ضعف، وأن يطلب الستر من ربِّه في حياته ويوم يقوم الأشهاد).
ولذلك يُوطِّن نفسه على المضي فيما لا يمس دينه من سُبل القول والكتابة المشروعة في الحديث عن الذّات يقول: (ولقد اجتهدت في التباريح أن أسجل ذكرياتي بأمانة إلا ما لا يحل الجهر به، لأن اللَّه لا يحب الجهر بالسوء، ولأن اعترافات النصارى ليست من ديننا).
وإذا كان المستشرق الألماني الدكتور (رودلف زلهايم) يعترف بما وصل إليه الغربيون من انتكاسة أخلاقية في مجال الحديث عن النَّفس، ويؤكد في الوقت ذاته صعوبة التخلي عن ذلك المَنْحَى لطبيعة الشعب الغربي قائلاً: (إننا ليصعب علينا - نحن الغربيين- أن نتصور أنفسنا في موقف المسلمين هذا، فلقد فقدنا في عصرنا الحاضر هذا الحسَّ المرهف، وتفشَّت لدينا غوغائية لا تُقدّر ولا ترعى حرمة الأدب والاحتشام والحياء) فإنني أرى أن السيرة الذاتية لا يمكن أن تكون أدباً معبراً عن قضايا وحياة الأديب المسلم إلا إذا كانت فَنّاً رفيعاً يُرضي المشاعر النبيلة، ويرتفع بالأحاسيس البشرية إلى مستوى الطهر الإنساني.
وليس معنى ذلك أننا نفترض المثالية في كل كاتب يتحدث عن نفسه، بل معناه أننا نفترض فيه أن يكون قاضياً عادلاً، يرى الفضائل فيحبذها ويشيد بها، ويرى الرذائل فيعترف بخطئها، ويشرئب إلى حياة كريمة تتجنبها، وإذ ذاك يكون صاحب الترجمة الذاتية فناناً ينشد ارتقاء البشريّة، ويحلم بازدهار السعادة الشاملة للفرد والمجتمع.
ولذلك فإن الانسياق أو (الانقياد) وراء الدعوة إلى التعري الخالص على إطلاقه أمر مرفوض، وينبغي أن يراجع نقادنا وأدباؤنا الموقف منه، ليس في السيرة الذاتية وحدها، بل في الرواية والقصة التي تموج بالمشاهد المُخلَّة بأمانة الكلمة الطيبة تحت أي شعار كان ولو كان الواقعية والحريّة التعبيريَّة.
ويرى أحد أبرز الفقهاء الأدباء في عصرنا (علي الطنطاوي) أن: (مُقارفة المنكر جريمة أخلاقية، والحديث عن مقارفته، ووصف الوقوع فيه جريمة أكبر منه) ويعلل ذلك بأن (في الأول فساد فرد وفي الثاني إعلان عن الفاحشة، وهو فساد أمّة).
غير أن هذا في المقابل لا ينبغي أن يدفع إلى نصب جدار سميك بين الأدباء وبين الاعتراف، يحول بينهم وبين بعض المكاشفة لأغراض وأهداف أعلى من مسألة الكشف في حدّ ذاتها..
وهذا لا يعني نفي مشاهد الاعتراف تماماً من سير الذاتية العربية، والقعود دون التماس: نموذج مغاير للاعتراف تجود به كتب السيرة وما شابهها، ويمكن في عجالة أن نقترح ضابطاً يُسهل ويسوّغ انتقاء هذا النموذج، ويعين على تحديده وتمييزه، وذلك لكونه يختلف عن الاعتراف بمفهومه الغربي في فن السيرة الذاتية، ولكونه يختلف عنه بالنظر إلى كتابات كثير من السيريين العرب.
والبحث عن هذا النموذج، ودرسه، والتنظير له ليس أمراً مقحماً من صميم مهامِّ الدرس الأدبي والنقدي، فالنموذج موجود بسمته المغاير، ثم ان في الكشف عنه خطوة قويّة لمعرفة رؤية أدب وأدباء.
                                                                                         .................................................... يتبع


* كاتب وباحث كلية المعلمين - أبها

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved