الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th April,2006 العدد : 147

الأثنين 5 ,ربيع الاول 1427

استراحة داخل صومعة الفكر

*سعد البواردي:
الشاعر الصديق سعد الحميدين واحد من رموز الحداثة في بلادنا له ما له، وعليه ما عليه، في بعض شعره ما يُتفق عليه، وفي بعضه الآخر ما يختلف عليه دون خلاف.. الإشكالية في بعض معطياته الشعرية أنها تغرق في بحر الغموض الذي يتجاوز حدود الرمز إلى درجة لا يقوى الفهم فك شفرة طلاسمه.. والشعر خطاب وجدان ومشاعر يطرح فكرة للاستيعاب.. لا للغياب..
شاعرنا في ديوانه (رسوم على الحائط) رسم لنا صورا لا أدري هي تجريدية بيكاسوية.. أم انطباعية واقعية يمكن قراءتها والخروج منها بمحصلة لا تحتاج إلى عملية تشريح عضوي وبنائي..!
(المدينة المترهلة) البداية منها:
وتخطرت عرجاء، تكبو في دروب العصر تلهث
تنثر السهلات في رحم الطريق
لا شيء يحدوها إلى التيار إلا طاقم أسنان
تمضع بين فكيها اللعاب..
هذه العرجاء تبيض وتفقس بتجاعيدها العميقة في متاهات عيونها.. وتنوء بحملها الثقيل حبلى بحجمة سنينها.. بعض توصيفه الذي يفتقر إلى وصفة بلاغية تفسر لنا دلالات ما يعني..
وساقها المعقوف مرتعش بحوض الطين يبرك
ويعب أقداحا من الماء المخضر بالطحالب
ونسائم طرقاء ترزح تحت حمل من دخان التبغ في الكوات يبحر
فكر مكلف.. أجهد شاعرنا، وأجهدنا كقراء معه.. لا يحتاج إلى المزيد.. بقدر ما يحتاج إلى الموضوع والإفصاح..
في خطابه إلى الشاعر مسافر يقول:
رائخ في رحم كهف يدرأ الحجر من الرمل
يتف الآه مشدودا إلى الركن بحبل الوهم
يستف من الطين لقيمات من الدود الذي ينفل
رائحة التبغ في الأركان
تمثال من الغصن الرائب
تبيض الحك تحدوا الأرق من الطرقات قطعانا
بثغاء يكتم الأذان يحز الوتر المشدود بالأنغام
يربطها بقيدوم الزمان..
وشاعرنا ربطنا معه بقيدوم الغيبوبة. والغياب.. لأن المفكر لدينا مغلق لا يقوى على حل الشفرة..
ساكن جاء من الأنباء قليس
أحرق البطن مع اللحم ببركان من الرحل
أذرع من دون أكتاف تنادي:
أين تموز.. أما آب..
دأب..
كلنا نسأل عن تموز.. وعن آب الذي آب.. ماذا قبل؟ وماذا بعد؟
(سرقة من اعترافات شاعر) قربنا بها إلى فهم نحمده جميعا ونشكره عليه:
أتريد بأن أفرش فوق الريح بساط
أو أغمد في صدري خنجر
أو أنفخ لحنا في مزمار. كي ترقص أفعى؟
علامات استفهام لازمة لأسئلة وددت لو أضافها:
أنا لست فقيراً هذيا. كي أفقأ عيني بالمسمار
أو أغمد في صدري الخنجر
فأنا جرح ينفل بالديدان
الطين يموت على كفي. وتخيم في قلبي الأحزان
رائع أنت يا صديقي.. هكذا أريدك خطاب شعر مقروء.. وخطاب مشاعر جياشة.. أطلب منك المزيد.. والمزيد..
الزورق غار بعمق الرحل
أجدِّف. فانكسر المجداف
وفمي قرية ماء حبلى.
ولساني من خشب أجوف
أبداً.. بهذا الشعر الجميل لسانك من ذهب لا خشب.. وشعرك عصا مستقيمة لا تعرف البوح في كف مبصر..
أنا لست الساحر يا سادة.. أنا شاعر
والشاعر في العرف اسفنجة تمتص جميع الأشياء
إلا حداثة الحداثة التي لا تضيف لقارئها شيئاً.. الألحان تموت معلنة.. مقطوعة قطعت يا جهيزة كل خطيب كما يقول المثل.. قطع بها شاعرنا حبل التغييب.. إلى حال الترغيب..
في كل يوم أقعي وراء السور أرقب بابه
عيناي فانوسان عن كهف سحيق
اذناي تلتقطان. أصداء النداء
قلبي يدق.. يدق..
لكن الجوار يمتد قدّامي كشمشون الأزل
أقعد قديتك. حرِّك المجداف
قد لا يسلم الشرف الربيع
نعم.. قد لا يسلم من الأذى.. ولكن الحائط أو السد هو من ضنيعنا نحن الذين نبني.. ونحن الذين نقدر على الهد.. مشكلتنا أن قدرتنا على بناء السد الحاجز عن ماء الحياة تتجاوز قدرتنا على فتح قنواته كي يموت العطش.. وتزهر الحياة.
نفحات على الضمير قرأتها وخرجت من قراءتها خلو اليدين. فلا هي افصحت في مفرداتها ولا أنا فهمت.
عينها تنظر للأخشاب تبني أهرامات رخوة التكوين
وعيون البوم ترمي ومضات
في كهوف يومض الفسفور فيها. والنيون
شرش الحب الطفيلي وشاخ..
أمسك العكاز والكشكول خاو
ارتمي ما بين زندي جاعد يتنزى بحنوط من دباغ
زفرات الكلس. والقصدير تهمي عند باب الحب
يا سمسم افتح خثر السماء لم يبق على الدكة عازف
وأكاد أقول لم يبق لدينا عارف بما تعني إلا العارفون بلغة الحداثة المفرقة في شطورتها..
(إطار بلا صورة) يقول شاعرنا الحميدين بلغة مقروءة:
يا شاعري أنا في طريقي واقف امتص عود الذكريات
واشد أذني خلف وقع خطى المشاة
ولساني الممطوط خلفي ثرثرت أطرافه
في قصعة حبلى بأنواع القديد
شاعرنا واقف واقف على فمه خطاب استنكار:
فإلى متى يا شاعري عني تشيح بوجهك المغبر..؟
أنهكك المسير.!
(تذكرة سفر ملغية) لا ضرورة للتوقف أمام مشروع سفر أُلغيت تذكرته.. لأنه دون سفر.. لقد اختصر جانبا من الرحلة..
(النار تتجدد أبدا) اجتزئ منها هذه الأبيات الجميلة المعبرة:
أجبيني يا عنبية الشفتين.. يا مكنون العينين
أجيبني إذا أخرى
فإن ندائك الصيفي يشجيني
يغني لي بألحان الأولى قد بعثروا الأشواق مواويلا مواويلا
(الأولى) يبدو أن المقصود بها (الأول) الذين بعثروا الأشواق
لعلي قبل أن ترحل.. مواطن آهتي امتد
ارتل في النجوم الخضر أشعاري الشتائية
وافرش من عيون.. آه من عينيكِ يا عيني
(أفرش من عيون) لا أدري ماذا يقصد بها.. هل أراد أن يقول مثلا (افترش العيون) رغم العيون لا تتسع كي تكون فراشة:
(رسوم على الحائط) عنوان الديوان.. بدايتها محمومة مهمومة باللقاء:
تجيئين!. قلت مع القيم.. قلت: تجيئين عند احتدام الرعود.!
وقلت. تجيئين عند المساء. وعند بداية كل صباح..
وقلت. دكان انتظار..
فهل طال انتظاره؟ بعد أن بنى لها كوخ انتظاره في حقل ربيعي معشوشب.. ويبدو أن رياح الشتاء هبَّت وأطالت من أمد الانتظار.
ونسأل مع شاعر الحميدين.. ماذا تبقى له؟
ترى. ماذا تبقى لي؟ نعيب غراب يسرقني!
يفتنني إذا ما أشرق الصبح
فاغرس في رأسي الطين. واسحقه
حتى ما انبعث زهرة..
(الغراب لن يفيق.. لا نعيب) لعله خطأ مطبعي.. أعود مع شاعرنا إلى ما تبقى له:
وتحت مظلة سوداء قارية
يجندني الكون الصمت
خثرت بمعقدي استجواب الأبعاد
خلف جدار مقهى غائم بالتبغ
وصوت مداعة كسلى
شاعرنا بتخثيره للمقعد.. واستجواب أبعاده. وصوت المداعه أسلمنا إلى حيرة بلهاء لا تملك الحل.. ليت الكون صمته.. في مقطوعته كان كافياً:
تبقى لي.. صبي غص بالدمعة
وأم تمضغ العبرة
وأحزان الذين مضو بلا وطن
كأن الأرض ما كانت لهم أرض
وما كانوا لها أهلاً.. وجرح عذاب
هذا ما تبقى له بفم فصيح لا يعوزه الموضوع.. الوطن بلا أهل.. والأهل دون وطن.. والجرح المغائر نازف..
(رحلة العيون المرمدة) يتغشاه المرصد.. ومفرداتها التي تزيد من إرباكها: هذه نماذج..
وتصقي الآه في قيدوم احساسي
ولا تنفك (نعبة). (نعبه)
كجوقات من الأطلال..
رغم أنها تمثل شعراً حوارياً بين الصوت والكورس فيه تداخل بين الصور الجمالية.. والصورة المعتمة.. نموذج لصورة الحية:
ترى من قال هذا وجهنا الآخر
وجدناه: ولكن غاص في الأغوار
عثرنا في الطريق الصلب
ركائبنا امتطاها الجوخ
غبار الدرب خيم فوق جوقتنا. فلم نقدر على المسرى
(صفحة من دفتر الوجد).. أعدت بعض مقاطعها أكثر من مرة.. ولكن دون إجابة.. أترك لكم مشاركتي:
تتثاءب الساعات في ليل من الاسفلت ضاجعة الخواء
فانخت عاطفتي.. عقلت مشاعري
وتخيلتني القرعاء في الأفق المخضب واقفة مهما قد نأت العواصف
ومع هذا فيها الجميل.. مسك ختامها:
ما كنت أحسب أن في عينيك قيدا
شفتاك. أم عيناك.. لا..
مهما اجترأت فإن لي قلباً
وقلبي لن يبوح قبل أن يأتي المسار
أتجاوز بكم ومعكم البعض من محطات شاعرنا (في المقهى الشرقي). (أوراق في دفتري) ونتوقف أمام القرية التي تغالب الظمأ بحث عن قطرات ماء. علنا نتعرف على لغة القرية..
مثلما تلقى على الدرب نفاية
خرَّ في الدرب صريعاً
قال من قال: أصابته قرينه
أعطي السكين. والماء المثلج أنها بنت لعينه
من بنات الجن تهواه. فعارض. أنها تشفي لظاها
اعطني الماء سريعاً.. سوف تخرج.. بعد أن أتلو القراءة
عطش قريته ليس عطش ماء.. دائما عطش عقل.. عطش خرافة تسكن دواخل من فيها دون أن تبرحها.. وجدت من يصححها.. المسكون بجن ليس أكثر من جائع أطعمه حكيم القرية لينتصب على قدميه معافى: (جوقة الزار) أفقها لا يبتعد كثيرا عن أفق القرية المسحورة.
ذات مقاطع ثمان: في مقطعها الأول طبول تدق على أنغام السماء
وينداح الصدى. متقطع الموتر
لتسمع في بقايا الليل أغنية شتائية
على أنغام تلك الأصوات صوت طبل يتحرك من أعلى إلى أسفل.. وأصوات محتجة.. وصمت.. وفي نقلة أخرى حناجر ألهبها السعال..
تفجرت الحناجر تبصق (اللال)
فتهوي سواعد كالصخر فوق الطبل تنطقه
ليبعث نغمة رعناء مسحورة
في سرده تساؤل:
ترى هل مادت الأرض بم . أم خانتي نظري؟
رؤوس القوم. والأنغام تشكل جوقة الزار
فهب يدك سطح الأرض
يبعثر ما تبقى من بساط أغبر نتن على أنغام جوقته
أتصور أن البعثرة يعود ضميرها إلى اليد.. لو صح هذا التصور فإن مفردة يبعثر يحسن بها أن تكون تبعثر.
خيام جوقة الزوار:
غريب جاء يبحث في بقايا البيت عن شمعة
من الدبس المعتق في الجدار
يقرّب لحود أجداده..
شمعة.. ودبس.. ولحود.. سمك وسمك وتمر هندي.. كلها مطلوبة. حتى اللحد انه ضرورة رحيل حياة إذا ما كانت محظوظة.
شكراً لصديقي الشاعر الحميدين على رسوم حائطه التي منحتني معرفة ما أمكن مشاهدته.. تاركاً البعض الآخر لرسامه الأقدر على قراءة ما رسم.


الرياض ص.ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved