الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th April,2006 العدد : 147

الأثنين 5 ,ربيع الاول 1427

نفيس الموروث
ما بين كنز الجهيمان وفرز عبدالله محمد حسين

*يوسف عبدالرحمن الذكير:
نادراً ما يُصاب قارئ كتاب بمشاعر الإبهار والإرهاق والإمتاع في آن، مثلما يُصاب كُلُّ مَنْ درس وتمعن في كتاب عبدالله محمد حسين: (تداعي الواقع في الحكايات - أساطير الجهيمان نموذجاً). فإن كان العنوان لم ينصف ما في الكتاب من مضمون أو يعكس ما يحتويه من نفيس المكنون، فإن الكتاب جدير بالتربع على أرفع قمم مكنوز خزين، كل ساعٍ للثقافة ومتلهف للمعرفة، باحث عن نفيسها.. الكتاب مرهق ومبهر في كثافة وتركيز ما احتواه في فصل الأساطير، وممتع مثرٍ في كل ما عداه من فصول، تدرس وتمحص وتفرز مكنوزاً طال إغفاله!
يهيأ المؤلف القارئ لما ينتظره من غوص في أعماق قد تقطع الأنفاس، بمقدمة لمقاربة تاريخية عن بيئة سكان ومعتقدات وأديان ما يمكن تسميته بالحقبة الأسطورية في الجزيرة العربية!.. البيئة آنذاك لم تكن صحراوية قاحلة، بل ثرية ندية، غزيرة الأمطار، تفيض بالأنهار، خصبة التربة، عامرة بالمدن والحواضر الزاهية بالقصور والحدائق والبساتين، مستشهداً بما كتبه ابن خلدون عن (قبائل طسم وجديس) وما وثقه الهمداني في كتابه (صفة جزيرة العرب) من تعداد لما كانت تزهو به البلاد من شتى أنواع النبات والحيوان والطيور، وما أكده أحمد زكي في كتابه المعاصر (الأساطير: دراسة مقارنة حضارية) وبرهن عليه بالدليل القاطع الدكتور عبدالرحمن الأنصاري من خلال تنقيته وكشفه عن مدينة (الفاو) وما كتبه عن حضارتها إبان أوج ازدهارها قبل ظهور الإسلام، بما يزيد على ألف عام، في كتابه (صور للحضارة العربية قبل الإسلام في المملكة العربية السعودية) الصادر عن جامعة الرياض عام 1402هـ.. وهي صورة تتناقض كل التناقض مع ما رسمته مجموعة (أساطير من قلب جزيرة العرب) التي جمعها وكنزها البحاثة الرائد في ذلك الميدان، عبدالكريم الجهيمان، طوال 25 عاماً، وما بذله من جهد ومال لإصدارها ضمن خمسة مجلدات تحوي (184) حكاية شعبية موطنها بيئة جافة جرداء شحيحة الموارد!
***
ما إن يهيئ الكاتب القارئ بذلك التجوال المبهج على شطئان ماضٍ غابر، ندي زاهر عامر، حتى يغوص به سريعاً، إلى أعماق مفاهيم وتعاريف الأساطير، ليصحبه في تنقل مكثف مرهق خاطف، بين تجاويف وتضاريس تحولات مفهوم الأسطورة عبر آلاف السنين.. بدءاً من أساطير جلحامش وأكتفيو السومرية، وأوزيس وأوزاريس الفرعونية ومثيلاتها المشرقية اللواتي سبقن الأساطير الإغريقية بآلاف السنين، مبرهناً بأن الشرق هو من كان مهد ميلاد الوعي البشري، لا الغرب مثلما يدعي غلاة المتعصبين المتمركزين حول الثقافة والحضارة الأوروبية وتفوقها حاضراً وتأسيساً!
أساطير تتمحور حول تصورات البشر عن تعدد الألهة، أبطالها بشر، أنصاف آلهة، أساطير لا تكاد تختلف في السمات والجوهر عن الخرافة، أختها التوأم، فالتشابه بينهما شبه كامل، وتشتركان مع أختهما الشقيقة، الحكاية الشعبية في أن كل تلك الأنماط السردية، مجهولة المصدر، فلا يعرف لأي منها مؤلف محدد الهوية!
الخلط ما بين تلك الأنماط السردية الثلاثة وما بذله المؤلف عبدالله محمد حسين من جهد ودراسة متعمقة جال فيها ما بين (83) مرجعاً، منها تسع دوريات متخصصة، و(74) كتاباً تراثياً وأجنبياً وعربياً ومعاصراً، لأهم وأشهر من كتب عن تلك الأنماط.. جهد ينم عن مدى عمق البحث، وتشعب الدراسة.. جهد طال بلا شك لسنين قياساً لما يتطلبه من وقت لقراءة واستيعاب واستخلاص الآراء والمعلومات من ذلك الكم الهائل من المراجع!
دراسة وبحث هدفها الأساس، فرز الخلط ما بين تلك الأنماط السردية الثلاثة، فكان ذلك الفرز محور الكتاب.. فرز موثق متعمق مشوق، قد يبرز جانباً منه، عرضٌ خاطفٌ متواضعٌ، لبعض ما احتواه من إثراء وإمتاع.. بدءاً من فرز الأسطورة عن الخرافة.
***
الأسطورة والخرافة ترادف معناهما في الأذهان، منذ أقدم الأزمان، ولحد الآن، ترادف وخلط لم يطل كبار العلماء ومن أمثال عالم النفس الأشهر (كارل غوستاف يونغ) الذي لم يفرق ما بين الأسطورة والخرافة، أو كبار الأدباء العرب، من أمثال (أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ)، في وصفه بكتاب الحيوان، ما ورد من حكايات عن الجن بالأساطير، في حين وصف مثيلاتها عن العفاريت والشياطين بالخرافات، أو ما ورد من تفسير في المعاجم العربية والقواميس الأجنبية، لكل من المفردتين، يفسر كلاهما بالأخرى، وإنما ما طال حتى الباحثين المتخصصين المعاصرين، الأجانب منهم والعرب على حد سواء، من خلط والتباس، بينه المؤلف من خلال تعداد العديد من أشهر الأسماء، وعرض مختلف الآراء، بل إن المؤلف ذاته يعترف بما اعتراه من ضبابية وغموض وهو يجول ويصول بين تلك الآراء للوصول إلى تعريف (جامع مانع) للأسطورة!
زاد ذلك الغموض التباساً، ما عدده المؤلف من عديد النظريات، وما أورده من مختلف التقسيمات، وما ذكره من شتى التعاريف والسمات، للأسطورة وما يميزها عن الخرافة، لينجح في نهاية المطاف بتبديد ضباب الغموض والالتباس، بعد أن قام بتحديد الفيصل الحاسم ما بين الأسطورة والخرافة.. ألا وهو القداسة!
فالأسطورة والخرافة تبادلا الأدوار حسب نظره ما سبق الإسلام من أديان تجاههما، فما احتضنته الأديان من حكايات خرافية، تحول إلى أساطير مقدسة والعكس صحيح.. فقد أسبغت الكنيسة على سبيل المثال القداسة على ما أسمته بالقديس جورج ذابح التنين، رغم علمها اليقين، والجميع بأن التنين كائن خرافي، لم يكن له قط وجود، إلا في الخيال الجماعي لبعض الشعوب. وما تغص به كتب اليهود المقدسة، الموضوع منها والمحرف من أساطير ما زالت محط تقديس، ناهيك عما انتشر ولا يزال منتشراً من أساطير بين من يعتنق عبادة الأوثان، أو يقدس بشراً ويقر، تماماً مثلما كان بعض العرب في غابر الأزمان يقدسون الجمال والنسور!
فلم ينبذ الأساطير قبل الإسلام دين، سواء من خلال ما تضمنه القرآن الكريم من آيات تسع، تسبغ على (أساطير الأولين) سمات البهتان والأباطيل، أو ما ورد في أكثر من حديث شريف ينهى عن تصديق أساطير، سماها عرب الجاهلية (الأوابد)، أو ممارسات تؤمن بالكهانة والزجر والأزلام وتبجل البجرة والسائبة والوصيلة من الإبل التي نهى عنها القرآن الكريم.
ذلك النبذ والنهي قد يشكل جزءاً من الجواب عن سؤال طرحه جل المتخصصين العرب الباحثين عن الأساطير وكرره المؤلف بحرقة، هو: أين أساطير العرب؟!.. قد يكون أوفى مَنْ أجاب عن ذلك السؤال هو الباحث د. محمد عجينة في مقدمة موسوعته عن أساطير العرب بقوله: (لا يخلو تراث أمة من أساطير، ولكن نادراً ما تعترف أمة بما في تراثها من أساطير، فأساطير العرب إما مدفونة في الرمال، أو محجوبة ما بين صفحات كتب التراث)!!.
***
أما التمييز ما بين الحكاية الخرافية وأختها الشعبية، فلا يقل ما بذل فيه من جهد، عما بذله المؤلف المبدع، في الفرز ما بين الخرافة والأسطورة، فإن كان فيصل الحسم بينهما هو القداسة، فإن الفيصل في التميز ما بين الحكاية الخرافية والشعبية هو الإنسان!..
فكل ما يدور حول الإنسان من حكايات واقعية، أو تتسم بالخيال هو حكاية شعبية، وكل ما دار حول غيره من حيوان وجان ينتمي للحكايات الخرافية.. دون أن يعني ذلك الفصل التام ما بين الأختين، فقد تتسلل إحدى الشخصيات من إحداهما للأخرى، مثلما قد تتسلل الأسطورة وتلك الحكايات إلى أنماط سردية أخرى كالشعر.
فقد استعار ووظف فطاحل الشعراء أشهر الأمثال في قصائدهم، كما يوضح المؤلف في كتابه، من خلال استشهاده بالعديد من الأبيات المثرية للنص،
كتوظيف (مواعيد عرقوب) في قول علقمة الفحل:
وقد وعدتك موعداً لو وفت به
كموعود عرقوب أخاه بيثرب
وقول كعب بن زهير:

كان مواعيد عرقوب لها مثلاً

وما مواعيدها إلا الأباطيل

وتوظيف أساطير (عاد) وخرافة التشاؤم من (عطر منشم) في قصيدة زهير بن أبي سلمى الشهيرة، التي منها:

فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
كأحمر (عاد) ثم ترضع فتفطم
تدار كتما عبساً وذبيان بعدما
تفانوا ودقوا بينهم (عطر منشم)

إلا أن قمة الإمتاع ربما كانت، ما سرده المؤلف عن تسرب الحكايات الخرافية عن الحيوان، للشعر من خلال أبيات قد تملأ أشداق معظم القراء، ضحكاً!.. أبيات قصيدة على لسان بغل عشق بغلة شهباء نظمها ابن شهيد الأندلسي، منها:

تعبت بما حُملت من ثقل حبها

وأني لبغل للثقال حمول

وما نلت منها نائلاً غير أنني

إذا هي بالت بلت حيث تبول

فعارضه شاعر آخر بأبيات على لسان حمار عشق حمارة، تقول:

دُهيت بهذا الحب منذ هويت
وراثة إرادتي فلست أريث
وما نلت منها نائلاً غير أنني
إذا هي راثت رثت حيث تروث

ليصل المؤلف لما قد يعتبر ثاني المحاور الرئيسية من الكتاب، المتمثل في عشرات الصفحات الممتعة من تمحيص وسرد وفرز لحكايات مختارة بانتقائية وعناية من مجلدات الأديب عبدالكريم الجهيمان الخمس (أساطير من قلب جزيرة العرب) التي اتخذها نموذجاً، شكَّل جزءاً من عنوان الكتاب (فنفى بداية أن تكون تلك الحكايات من الأساطير، ليفرزها ويصنفها إلى حكايات منها ما هو خرافي ومنها ما هو شعبي وإن اعترف أن بعض الأساطير قد تسلل لبعضها!.. نفي لا يعني مطلقاً التطاول على قامة شامة كقامة أديبنا الرائد عبدالكريم الجهيمان، فالأديب الباحث عبدالله محمد حسين يكن أجل الاحترام والتقدير له، لا من خلال جعل مؤلفاته عنواناً ومحوراً رئيساً من محاور كتابه، بل من خلال إهدائه الكتاب وإنهائه بسيرة وحوار معه، ووضع صورته على غلاف الكتاب إعراباً لما يكنه تجاهه من مشاعر التبجيل، إضافة لكون الجهيمان لا يضيره بل يزيده رفعة، انتماؤه لمدرسة عملاق كالجاحظ في عدم التفريق بين مفاهيم الأسطورة والخرافة!.. فإن أفنى الجهيمان عمره في كنز كنوز الموروث، فنال من الاحتفاء ما يستحق أكثر منه من التقدير، فلعل ما بذله عبدالله محمد حسين من جهد طال سنين في فرز تلك الكنور، ينال من التقدير، ما نالته الأديبة بدرية عبدالله البشر التي سبقته في كتابة بحث في ذات المضمار، بعنوان (الحياة الاجتماعية في منطقة نجد قبل النفط - دراسة سوسيولوجية تحليلية للحكاية الشعبية) فحازت عليها درجة الدكتوراه!

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved