الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th July,2006 العدد : 160

الأثنين 7 ,جمادى الثانية 1427

ميثولوجيا الرحابنة:الذاكرة.. الهوية والأسطورة
أحمد الواصل
إن أول ما تبادر إلى سمعي صغيراً لفيروز والأخوين رحباني (عاصي ومنصور)، هي أغنية: (طريق النحل)، كان الشريط موضوعاً في دُرْجٍ بنيّ من دولاب مكتبة والدي، وأظنه كان تسجيلاً عشوائياً لبعض الحوارات والأغنيات من مسرحية: (ناطورة المفاتيح - 1972)، فقد ظلَّ يشدني مقطعاً منها: (إذا رَحْ تِهْجِرْني حبيبي - ورَحْ تنساني يا حبيبي ظَل تذكَّرني.. واتذكَّر طريق النحْل..)
.. هذا هو صوت فيروز يلغي الزمن البشري، ويكوّن زمناً أسطورياً يتعالى على الواقع لوهلة مبدئية فيما هو صورة الواقع المنسي فينا، لعل زيارة بيروت في جزئها الشرقي جونيه أو الخنشارة أو الكسليك تكشف ذلك الازدواج ما بين المدني والريفي مثيل ما نراه من ازدواج بين أطراف المدني والرعوي، المدني والبحري في مدن الخليج العربي: الكويت أو البصرة أو المحرق أو حائل أو عنيزة أو الرياض..
.. إن وجود تلك الأشرطة لفيروز والأخوين رحباني، لم تكن مقننة، بالتالي ليست كاملة، فثمة ما هو مقصوص ومستبعد، من جهة مصدِّريه وموزعيه، فلعل الصيغ التي كانت تصدر متناسبة وشروط السوق الغنائية في غير بيروت أو دمشق أو القدس..
.. لم تكن تتوافر الأعمال المسرحية كاملة لفيروز والأخوين رحباني، فقد مورست بعض الرقابة في البلاد العربية على عرقلة استضافة أي عمل منذ نهاية الخمسينيات والستينيات مروراً بالسبعينيات خلال القرن الماضي، فتسربت أغنيات أنتجت غير متورطة في السياق الدرامي (التمثيلي)، وهذا ما كان يشكل صورة فيروز والأخوين رحباني، أو يلائم الذوق العربي إيديولوجياً، فإن أغنيات كثيرة، مثل: (حبيتك بالصيف) من مسرحية: (يعيش.. يعيش - 1970م) أو: (سألوني الناس ويا دارة دوري فينا) من (المحطة - 1973م) أو (من عز النوم) من (لولو - 1974م) أو (سألتك حبيبي) من (ميس الريم - 1974م).
.. إن هذه الأغنيات كانت امتدادا لذاكرة عربية خائفة من الحداثة، الثورة والجنون في أعمال فيروز والأخوين رحباني، إنها صور شعوب مذعورة ذات ذوق يتمسَّك بطفولتها وحنان أمها خوفاً من مواجهة جبروت واستبداد أبيها، فإن (شَخْل) عناصر الحداثة بات مهدداً بالقمع والحجب العربيين.
.. عندما أعادت شركة صوت الشرق، خلال التسعينيات الماضية، طبع الأعمال المسرحية كاملة في نظام الأسطوانة، بموازاة مع الأعمال الإذاعية والتلفزيونية، ومن ثم طبعت نصوص المسرحيات، شركة ديناميك غرافيك، بتنسيق هنري زغيب، فقد أعطت الأعمال وهجها الكامل.
.. إن أغنيات جميلة مثل: (ندهتني الريح الغريبة) أو (ساعدني) (جبال الصوان - 1970م) أو (طريق النحل) و(وينن؟) أو(بيتي أنا بيتك) (ناطورة المفاتيح - 1972م) أو (ليالي الشمال الحزينة) أو (إيماني ساطع) (المحطة - 1973م) أو (حبو بعضن) أو (حوارية تبقى تجي من الريح) (ميس الريم - 1974م)، كذلك الحوارات الثنائية الخلاقة بين فيروز وأنطوان كرباج، على سبيل المثال، حوارية غربة بنت مدلج وفاتك المتسلِّط عن النضال والكفاح ضد الطغيان والإرهاب (جبال الصوان)، وزاد الخير والملك غيبون من (ناطورة المفاتيح) حول الحاكم الذي تركه شعبه، ووردة والحرامي - قاطع التذاكر عن فَلْسَفة الحلم من سرقة الأشياء إلى المبادئ (المحطة)، لهي تكشف عن الأرشيف الرحباني، الخلاق ما بين الأغنية والموسيقى، الحنجرة والأداء، الحوار والتمثيل، العزف والالآت، الضوء والستار، المسرح والحضور..
.. إن فيروز والأخوين رحباني، تاريخ ثقافي كبير، وما تحاول أن تتلمَّسَه هذه الدراسة المختصرة*، هو الاتفاق على كون هذه الظاهرة الثقافية توافرت لها مكتسبات تاريخية، حملت على جعلها حالة ثقافية مفارقة، لأسباب عدة، أهمها: تحولها إلى مؤسسة ثقافية بروحية العمل الجماعي، توظيف مواهب (صوتية وتمثيلية) تأهيل تراث (موسيقي وفلكلوري) ومهارات وطاقات (مهنية وفنية)، والانطلاق في رسم هوية ذات ملامح كونية لا تخفي قوميتها ولا صلتها بالإنسانية.
.. ما يمكن إعادة تصوره هو كيفية توافر لهذه الظاهرة الإبداعية، بأعمال الشعر واللحن من الأخوين رحباني، والحنجرة والأداء لفيروز، وهذا لا يغفل الاستعانة والتنويع من شعراء وحناجر أو ألحان ومواهب في التمثيل والغناء، مسألة التكريس والترسيخ في الذاكرة العربية ثقافياً، من خلال تحولها من خاصية لبنانية في الخصوص الجغرافي الصغير أو الشآمي في الخصوص الجغرافي الكبير، ومنه إلى العموم العربي من الخليج العربي نحو المحيط الأطلسي، ومنه إلى اعتبارها نموذجاً ثقافياً عربياً تجاوز الشرط المحلي متصلاً بالجذور الإنسانية في أساس مرتكزاته: الله، الوطن والإنسان.
.. هذا ما يشرح سبب اختيار عنواننا، ميثولوجيا الرحابنة، خارج معجمية المصطلح: علم الأسطورة، إلى اعتبارها حكاية إبداع وصيغة ثقافة، تستمر في الزمن وتتخذ من تصديق البشر بالتفاعل والتعاطي، ما يحفظ بقاءها وخلودها.
العروبة المنسية (ذاكرة الوجود)
.. إن ما يميز الشعوب السامية، والعرب منهم، خلال خمسة آلاف سنة من ظهورهم البشري وتكوينهم الحضاري، كما في الجزء الشرقي من الهلال الخصيب الفرع الآكادي (ما بعد السومريين): الآشورية أو البابلية أو السريانية، ومراكزهم الثقافية (المرحلة الأولى 2500 - 2000 ق.م): أوروك، أور وأكاد، ماري وآشور ثم بابل ومكة، وفي الشمال الغربي الفرع الكنعاني: الأوغاريتية أو الفينيقية أو العبرية، ومراكزها الثقافية (1500 ق.م): أوغاريت، جبيل، صور والقدس، وفي الشمال الغربي (ما بعد العموريين): العادية أو الثمودية أو النبطية ومراكزها الثقافية: المدائن، الحجر وبترا، وفي الجنوب الغربي: المعينية أو السبئية أو الحبشية، ومراكزها الثقافية (الألف الأولى قبل الميلاد): مأرب، ذات كاهل (الفاو)، نجران وأكسوم(1)، هي ميزات خطيرة تتصل بوجودهم الحضاري وفعالية أثرهم الذي تناقلته الشعوب المتناسلة والغريبة عنه.
.. إن كل لهجة عربية، تبعاً لمكانها وتاريخها، ترث صوتيات وموسيقى، ملامح ومعالم، لغة أم أو أخت، فاللهجة العراقية ترث الآرامية الشرقية، واللهجة اليمنية ترث السبئية، كذلك اللهجة اللبنانية وربما ترث لهجة من لغتين: اللبنانية ترث الفينيقية والآرامية، التونسية من البربرية والفينيقية أو النجدية من الآرامية (الغربية - النبطية) والآرامية (الشرقية)..
.. إن الوعي بالوجود القومي، على استعارته نظرياً من أوروبا، كان الدافع وراء إزاحة الوجود العثماني الذي لم يعد يستجيب لتطلعات العالم الجديد، نشوء الدولة بدل الإمبراطورية (الخلافة)، والمواطنة بدل الرعيَّة (القطيع)، وكل ملامحها من حدود وتعريف، هوية وجواز..
.. إنما الفعل القومي، المعبر عن ذاكرة وجود، هو صورة ثقافية، لطاقة وطموح، إرادة واستطاعة، أي شعب، وكون الشعب العربي، خاض مراحل طويلة، بين القرن الثامن عشر والعشرين، من وعْيٍ تاريخيّ سياسيّ، متصاد بحراك اجتماعي، استند إلى تطلُّع ثقافي وإيديولوجي، لحركات تحرر من عبودية المركز واسترقاق فئران المركز، قُوَّام مقاميات وحكمدارات، وفرمانات وإقطاعيات..
.. من هنا، عادت مسألة علاج الانفصال الزمني واقتراح جسر التعاقب والتراكم الحضاري، بين ما فصله مجيء المغول الغزاة وتمركز الخلافة، بفرع من أحفاد السلاجقة، عبر الصورة العثمانية، ولبنان خاض نزاعاً ما بين الأب العثماني والعَوْن الأوروبي(2)، مثيل كل البلاد العربية، سواء ما كانت صيغته استعماراً أو وصاية، وتم لهذه البيئة الجبلية والساحلية، كذلك الرعوية والزراعية، بكل موروثها السرياني (الطائفة المارونية) والبيزنطي (الطائفة الأرثوذكسية)، والعربي بنوعيه الشمالي (الطائفة الدرزية) والجنوبي (الطائفة السنية والشيعية)(3)، أن تكون دولة، تباين فيها الصراع مكبوتاً لفترات، فلطالما كان مهدداً بأن تخرج شياطين الكبت والصمت، كشفتها مبرِّرات الحرب الأهلية لاحقاً، فمهما بدت حقيرة في البداية، إلا أنها تنطق عن حال عربي عام، فحكاية الحرب الأهلية - 1860م، بدأت خلافاً حول صيد حجل بين صبيٍّ درزي وآخر ماروني(4)، ومثلها الحرب الأهلية - 1975م، لهي تتكرَّر دوماً، كأن الطيش والعبث سمة شعوب لم تحسم موقفها الحداثي والتقليدي، من التراث لا اللغة، والثقافة لا العِرْق، والتاريخ لا الزمن..
أعجوبة الهوية (خلقية الإبداع)
.. فيروز والأخوان رحباني، لم يغب عن ذاكرتهم، لا من صعيد الفلكلور والأغنية، الحكاية والمسرح، أن يقعوا في تلك الحيرة والاستلاب، فقد كانوا صادقين للتعبير عن ازدواج حضاري، لم تخطئه أيادي وعيون الإيديولوجيا، التاريخ والإرث، وهذا ما خلق ثنائيات في نتاج المؤسسة الرحبانية، حيث درسها أحد المؤرخين الباحثين(5)، وتوصل إلى رصد: ثنائية الريف والمدينة، وثنائية الشرق والغرب.
.. في الأولى، ثنائية الريف والمدينة، نعرف أنه هرب والدهما حَنَّا الرحباني من مسقط رأسه، عين السنديانة، إلى أنطلياس (شمال بيروت)، لكونه مارس دوراً شكاسياً، بما يسمى بلهجة لبنان (القَبَضايات) مع السلطة العثمانية، فتربى عاصي ومنصور في مناخٍ تسرَّب إليه النتاج الفلكلوري، من فنون أرياف الشآم (ذات الإرث السرياني والعربي): الميجانا، العتابا، أبو الزلف ورقص الدبكة، وكان أثر جَدَّة الأخوين رحباني حاسماً، بفن القرادي، وهي من عين طورة، وفيروز تربَّت عند جدَّتِها في الدبية أيضاً.
.. ثم تلقَّى الأخوين رحباني، عاصي (1923 - 1986م)، ومنصور (1925م)، تعليماً أكاديمياً من بطن الكنيسة المارونية على يد الأب بولس الأشقر، الذي علَّمهما النوطة وأصول الموسيقى الشرقية، عندما طبَّقا ذلك على الموروث الفلكلوري اللبناني(المشترك شآمياً) والتراث الكنسي (الماروني والبيزنطي) إضافة إلى ذلك التراث الكلاسيكي العربي، الموشحات والقصائد، وهذا ما عمَّق فهمهما بفَلْسفة الموسيقى الشرقية، خلال السنوات الست مع الأب الأشقر، فيما كانت تتلقَّى فيروز دروسها في معهد الموسيقى الوطني، وتشتغل في الإذاعة، كان من معلِّميها: الأخوان فليفل، حليم الرومي ومحمد غازي.
.. الثانية، ثنائية الشرق والغرب، جاءت بتولِّي الفرنسي برتران روبيا، تعليمهما في أكاديمية ألكسي بطرس للفنون الجميلة (ألبا)، علوم الموسيقى الأوروبية، خلال تسع سنوات متواصلة.
.. إن هوية الأغنية الرحبانية متصلة بذلك الموروث والفلكلور(الغناء الريفي) والتراث الكلاسيكي (العربي والأوروبي)، فكانت تعبر - كما يصفها ناقد - بأنها أغنية: (تلعب بين الطرب المصري، الغنج السوري، الشجن العراقي، الإرث الأندلسي والحداثة والتطور الغربي(6).
.. إن الأغنية الرحبانية، اعتمدت على الموروث الريفي، وهذا ما تمثَّل في نماذج كثيرة، كما في بدايات الإذاعة، مثل: (مرمر زماني، ع الروزانا)، كذلك التراث الكلاسيكي العرب - الأندلسي: بالذي أسْكَرَ مِنْ عَرْفِ اللَّمى وغُصْن نقا، كذلك الترجمة الغنائية، لقطع موسيقية أوروبية، كما حدث مع موسيقى كنيبر (كانوا يا حبيبي) أو حركة من السمفونية الأربعين لموزار (يا أنا.. يا أنا)، فيما ظلت بعض التجارب الطليعية، كأغنية: (رَجَعْتَ في المَساء) أو(مُرُوجُ السُّندس)، على هامش التجربة لا في قلبها.
.. إن صوت فيروز، حنجرة حمَّالة أوجه، ظَلَّ يعبِّر عن جدلية الريف (دبكة لبنان) والمدينة (حبُّو بعضن)، وجدلية الشرق (سوا ربينا) والغرب (يا أنا.. يا أنا).
.. إن أبرز السمات التي تتلخَّص لنا مأتية من سيطرة ثقافة المكان والزمان اللبنانيين:
1 - العاطفة الفلكلورية: المتمثلة في تَمْدين الغناء الريفي، الذي تم بأصوات: صباح ووديع الصافي، ونصري شمس الدين مع فيروز، كذلك أصوات أخرى: إيلي شويري، هدى حداد، ملحم بركات وجورجيت صايغ، وهو ما قامت عليه غالب المسرحيات، وتوافر فيها استثمار كل ما يمكن توظيفه في الأغنية الفردية والموسيقى، كذلك الحواريات والغناء الجماعي.
2 - العاطفة المدنية: المتمثلة في حدود تجريب، منعها من الانطلاق كارتكاز، تلك الثنائيات التي عاشها جيل الأخوين رحباني، مثل توفيق الباشا وزكي ناصيف، كذلك روميو لحو ووليد غلمية.
.. إن محاولة وضع لحن لعمل مأخوذ من كتاب النبي لجبران خليل جبران، تطلَّب جهداً واضحاً، فيه نفس فيروز وفكرتها، لكن وقع العمل في مسرحية (ناس من ورق - 1973م) التي كانت حفلة منوعات موسيقية فلكلورية لبنانية وأرمنية، وتعريب موسيقى أوروبية، ما جعل أفكارا غنائية متجاوزة وقعت رهن
.. إذا كانت أغنيات - علامات شكلت عاطفة مدنية خارج المسرحيات، عزَّزت حضورها بارتباطها سياسياً وإيديولوجياً من جهة، ومن أخرى تاريخياً وانتمائياً.
.. فللأولى سنجد أرشيف الغناء الوطني، سواء العواصم العربية (الكويت ومصر) أو لبنان بمدنه وقراه (بيروت أو عين طورة)، والقضية الفلسطينية: (زهرة المدائن) أو (راجعون) أو (جسر العودة) أو (سنرجع)، فإن للثانية، وهي مجموعة من التراتيل والترانيم، ما بين الطقسين الماروني والبيزنطي، سواء ما يخص أعياد الميلاد أو (أيام الآلام) كالجمعة الحزينة: الصَّلْب والقيامة، وما قدموه ضمن هذا الإطار خارج المستويات مباشرة، في نماذج راقية: (ساعدني) (جبال الصوان)، (بيتي أنا بيتك) (ناطورة المفاتيح)، و(إيماني ساطع) (المحطة).
.. لقد استطاعت الأغنية الرحبانية، النافذة إلينا عبر الإذاعة والمسرح، التلفزيون والكاسيت، أن تعكس صورة شخصية ثقافية تؤرخ، لحالة اجتماعية انعكست بالتالي في مجالها الأدبي والموسيقي على التعبير عن تمثل موروث ومحاكاة تراث، وإنتاج شخصية مهما بدت ساعية في التمدين فهي لا تخفي جذورها الريفية، وهذا لا ينطبق على صوت فيروز، الذي بقدر ما كان حمل لواء القناة الرحبانية، فهو استوعب تلك الشمولية الغنائية، في الألوان والقوالب، والأنواع والأشكال من الشعر والموسيقى، عدا أن تجربة الأخوين رحباني كانت تقف محترزة من المدرسة السابقة لها، وهي المصرية (7)، فيما كانت فيروز تجاوزت الحيِّز الرحباني نحو وضع صوتها ضمن امتداد عربي صميم(8).
العصبية الرحبانية (أسطورة النموذج)
.. إذا كانت الحرب الأهلية (1975 - 1990م) في لبنان أشعلت إشارة كبيرة نحو تحولات اجتماعية عربية، ضلَّلت تقديرات ومصالح السياسي والديني، كاشفة أزمة دخول العرب إلى هذا القرن العشرين. إن وفاة عاصي الرحباني، وبقاء منصور وحده مع أبنائه (أسامة ومروان)، فيما تكمل فيروز وابنها زياد الرحباني، الذي استطاع قتل العُقْدة الأوديبية الرحبانية، وبناء شخصية خاصة به، من الالتقاء بفيروز في مشروع منفتح، كشف مدى رحابة صوتها، واتساع أفق الفكر الموسيقي له، بأعمال تجاوزت ثنائية الريف والمدينة كذلك الشرق والغرب، متجهة نحو مدنية خالصة - كما يصفها عالم اجتماع -: (مدنية الهموم والهواجس، فتكتمل الصورة السابقة، التقليدية، بالصورة الجديدة، الحديثة. مع كل ما يعني ذلك من تغيير في السجل المرجعي المفاهيمي والمتعلق بالأحكام والتصورات. فهذا النمط من الأغنيات الجديدة الذي لا يعجب الريفيات التقليديات، يعجب بالمقابل جمهور الصبايا والشباب (بات يتجاوز الثلاثين) الذي يقطن في المدن، حيث أمور الحياة مشتبكة ومتداخلة والمشاكل أكثر تعقيداً مما هي عليه في الريف(9). .. إن فيروز أثبتت صلتها الممتدة، بما أسسه الفكر الموسيقي لمحمد القصبجي وأسمهان، ومحمد عبد الوهاب ليلى مراد، حين عبرت أغنيات عن حداثة عربية (قطيعة مع الموروث الريفي والرعوي)، وتطور الأنماط الكلاسيكية والرومانسية (عبر الإذاعة والسينما بالأسطوانة والمسرح)، وهذا ما نتلمَّسُه في أغنياتها: (من روابينا القمر، مُرَّ بي) (شعر: سعيد عقل)، (معرفتي فيك) و(خليك بالبيت)، على سبيل المثال. .. إن أعمال منصور الرحباني، من جهة أخرى، سواء الأغنيات والمسرحيات، منذ (صيف84 - 1995م)، كشفت عن حال بدا يفقد صلاحيته التاريخية، لكون ظاهرة الأخوين رحباني وقعت خلال الثمانينيات، في دور التكرار والإعادة، وهذا ما يقارب الاستنساخ والاستمساخ، سواء في المواضيع والأشخاص، وما لم يسعف منصور، هو فقده الحس الابتكاري الموسيقي في وضع ألحان جديدة، والأمر الآخر انكشاف دور منصور الرحباني، بأنه مسؤول عن كتابة الشعر الفصيح، التناظري والتفعيلي، وارتباط شخصيته بالغنائية التقليدية العربية والكلاسيكية الأوروبية، كذلك اهتمامه بالتوزيع الموسيقي، فيما استمر الهم التاريخي والوطني، في أعماله اللاحقة، يكشف عن ممايزة فارقة، بقدر ما وقعت باسمه، فهي واقعة بين مقارنة تفاضل عن دوره المشترك، في الأخوين رحباني، وانحساره عن الإضافة إلى ما سبق. .. إن اطلاعاً على ما يحاول إنجازه أفراد من عائلة الرحابنة لهو متأرجح بين معوِّقين ثقافيين، هما: امتناع الوراثة، وأزمة النموذج، وهذا ما يعزِّز أسطورة النموذج الرحباني في المقابل تكشف العصبية الرحبانية. .. إن عمل الجيل الثاني من آل رحباني، المتمثل في ابن عاصي، زياد الرحباني، الذي رسم شخصية مستقلة، تعتمد تعميقاً مدنياً بالكلاسيكية العربية، سواء القدود والموشحات الشآمية، والأغنيات المسرحية من مسرح سيد درويش والأخوين رحباني، والتواصل الثقافي العميق مع ما يقارب الحالة المدنية من الموروث الكردي (الريفي) والإفريقي (كالجاز والبلوز)، فيما راح ابنا منصور، أسامة ومروان، كذلك غسان (ابن إلياس رحباني)، في تطرف موسيقي نحو الأغاني الرائجة من الروك والبوب ودمجها في محاولات بين كتابة أغنيات أطفال وأخرى موجهة ذات انتقاد اجتماعي وسياسي، بين الكاسيت والمسرح، كذلك الفيديو كليب والبرامج، لم تكن تبني شخصية وموقفاً مفارقاً بقدر ما كانت تنفيساً وتكريساً للمداورة، والشعور بالخصاء الفني، صوب (عمارة الأخوين رحباني). .. إذا كان زياد رحباني، خلق حالته الإبداعية، من خلال شخصية خاصة، جعلت من فيروز تكمل معه مرحلة مهمة من تجربتها الغنائية الثانية (الثمانينيات والتسعينيات)، فهي تعطينا الفهم العميق، لتجربة زياد نفسه، بأنه لم يقع مأسور الإرث الرحباني، حتى إنجازه إعادة توزيع بعض أعمال الأخوين رحباني، أسطوانة: (إلى عاصي - 1994م) التي سجلتها من جديد فيروز، وتشكيله نموذجاً موهوماً للامتداد الرحباني، عند أبناء عمه الآخرين، في أعمال تفاوتت فيها الإبداعية الخلاقة، واقعة في أسر النموذج الرحباني السابق، وهي تشابه الحالة عند منصور، في عجز عن تجاوز التجربة الخلاقة التي كان فيها شريكاً، بدرجة أو بأخرى، مع عاصي الرحباني وفيروز، تحت اسم: الأخوين رحباني. .. إن (الميثولوجيا الرحبانية)، لهي متحقِّقة في تجربة خلاقة، أخلصت لبيئتها الثقافية وعبرت أيما تعبير عن تحولات اجتماعية، بعضها مُمْلى وآخر اختير طوعاً، ضمن صورة ثقافية، اشتغل الأخوان رحباني على ترسيمها، وإن مرحلة تمدين الغناء الريفي التي قاما بها، بشراكة زكي ناصيف وتوفيق الباشا، شبيهة بتجربة الخليج، في تمدين الغناء البحري والصحراوي التي قام بها سعود الراشد، أحمد باقر وغنام الديكان، مع صوت شادي الخليج ومصطفى أحمد مقابل أن كانت المواهب المصرية كعبد الحليم حافظ وشادية، والعربية عموماً، من الحناجر المختلفة: فايزة أحمد ووردة، تشتغل وصولاً بالرومانسية والحداثة العربية ذروتها متصلة ومنقطعة عن جذور محلية نحو عربية، كما في حالة مجايلة من قبل محمد الموجي وبليغ حمدي.. .. إن التجربة الرحبانية، بقدر ما أسهمت في نقل الغناء اللبناني، وتبنيه شآمياً، من تخلِّف مائة عام كما يعبر كمال النجمي، إلا أنها بدأت تخسر بفعل عصبية طرفها الثاني منصور وأبنائه ما كسبته، فيما التاريخ يكتب التجربة المفارقة بين زياد وفيروز لتكون استمراراً خلاقاً ملهماً لتجارب أخرى، مثل: ماجدة الرومي وجوليا بطرس أو صناع أغنياتهما: مارون كرم وإحسان المنذر، نزار قباني وجمال سلامي عند الرومي، وإيليا أبو شديد ونبيل أبو عبده مع زياد بطرس، كذلك تجربة سميرة سعيد وذكرى، بكامل الجهاز التلحيني والشعري من عماد حسن ومحمد ضياء أو بهاء الدين محمد ووليد سعد.. .. إذا كان في المكوَّن الرحباني الثقافي، ذاكرة لبنانية صاعدة فينيقياً إزاء قومية عربية منسية لكونها مهدِّدة وطاغية، وخلقية إبداعية على ما هي عليه من ثنائيات الحيرة (ريف - مدينة) والاستلاب (شرق - غرب) إزاء تكريس هوية المذاق الطفولي والسحري، وما وصلت إليه التجربة الرحبانية من اكتمالٍ حرَفها الجيل التالي نحو عصبية تعترف ضمنياً بأزمة النموذج، فهي تكشف ملامح ومعالم (ميثولوجيا الرحابنة) التي تشكل ظاهرة بدأتها لعبة الصبيين عاصي ومنصور فشاركتهما اللعبة فيروز.
* أجزاء هذه الدراسة مستلة من دراسة طويلة، تعد للنشر في كتاب خلال العام القادم.
1 - انظر. فصل: البيئة الثقافية للغة العربية، من كتاب: أبعاد العربية، فالح العجمي، مطابع الناشر العربي - 1994م(الرياض).
2 - انظر. فصل: لبنان العثماني: ما خصوصيته؟، من كتاب: بيت بمنازل كثيرة، كمال الصليبي، ترجمة: عفيف الرزاز، نوفل - 2000م، ط: 3، ص: 1 93 - 210.
3 - انظر. فصل: اليقظة اللبنانية، من كتاب: تاريخ لبنان الحديث، كمال الصليبي، دار النهار - 2005م، ط: 9، ص: 159 - 191.
4 - انظر. مسرح الرحابنة في الصراعات اللبنانية، من كتاب: فيروز والرحابنة: مسرح الغريب والكنز والأعجوبة، فوزا طرابلسي، شركة رياض الريس - 2006م، ص: 63.
5 - دراسة: ثنائيات مغلفة ووطن آخر، فيكتور سحَّاب، ملف: الذكرى العشرون، السفير، 16 حزيران 2006م.
6 - مقالة: الأمير الرحباني، علي نصار، المرجع السابق.
7 - صرَّح عاصي الرحباني، حول انتشار أغاني محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، بأنها: (غزو مصري واستعمار عربي). ثنائيات - سحاب، المرجع السابق.
8 - إن الأعمال المقننة، مع ملحنين وشعراء، خارج المنظومة الرحبانية، على قلتها وندرتها، تكشف صلة فيروز وتجاوزها الأفق اللبناني - الرحباني، نحو العربي، مثل عملها مع فيلمون وهبي وجوزف حرب من جهة ومن أخرى محمد عبد الوهاب وشعر سعيد عقل وجبران خليل جبران.
9 - بانوراما المجتمعات العربية المعاصرة في أغاني فيروز، فردريك معتوق، الحياة، العدد: 12708، 15 كانون الأول - ديسمبر 1997م، ص: 14
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved