الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th July,2006 العدد : 160

الأثنين 7 ,جمادى الثانية 1427

عاصي.. البحث عن الأجمل
صباح قباني
في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي عندما كان الدكتور صباح قباني مديراً لبرامج الإذاعة السورية ساهم في إطلاق مرحلة الفن الرحباني الهامة من هذه الإذاعة. وفي تلك الفترة توثقت علاقة عاصي ومنصور وفيروز بدمشق فغنّوا لها وفيها أجمل أعمالهم. وما لبثت أن تماهت علاقة العمل تلك مع علاقة صداقة حميمية ربطت بين الرحابنة وبين د. صباح والتي كانت موضع اعتزازهم جميعاً.
في ذكرى رحيل عاصي (21-حزيران-1986) التي تقترب من عامها العشرين كتب د. قباني:
طويلة.. طويلة كانت السنوات التي غاب فيها عنا عاصي الرحباني. لكنّ طولها لا يُقاس بعددها ولا بالأيام أو الشهور التي مرّت منذ أن تركنا، وإنما يُقاس بحجم الأشياء الجميلة التي غابت معه، بتلك التي أخذها عاصي معه وما أُتيح لنا أن نستمتع بها، وبكل الأشعار والألحان التي كان يمكن أن يغمرنا بها لو بقي بيننا.
كلنا نعرف أن حضوره على هذه الأرض كان حضوراً غير عادي، واليوم، عندما نجدنا مغرين بطوفان رداءة ما يُكتب وما يُغنى، ندرك كم أن غيابه أيضاً كان غياباً غير عادي. عاصي الرحباني هو مشوار لم يكتمل، سمفونية شوبرتيه انقطعت قبل أن تنتهي، وشهابٌ أضاء سماء عمرنا، واختفى، مثل سيد درويش، قبل أن يتم مساره. التميُّز عند عاصي لم يكن فقط في القصائد والألحان التي وضعها، بل كانت جزءاً من مقترحاته وعلاقاته مع الناس. أتذكره في مواسم المسرحيات الرحبانية في الشام أو في لبنان، كان قبل رفع الستارة، لا يتوقف عن التحدث على خشبة المسرح جيئةً وذهاباً وقد سيطر عليه توتر وقلق واضحان، كان يتملكه هاجس الخوف من أن يكون ثمة خطأ ما في مكانٍ ما، ولهذا كنت تراه يدور ويدور ليتفحص كل شيء ويطمئن على وضعية مفاتيح الإضاءة وعلى درجة ضبط مفاتيح أجهزة الصوت، بل كان يحرص على التأكد من نظافة خشبة المسرح فإذا ما لمح قصاصة ورق لا تكاد تُرى أو نثارة صغيرة سقطت من أحد الديكورات كان لا يتوانى عن الانحناء لالتقاطها والتخلص منها.
كان يقول دائماً التميز يأتي من الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة وكم من مرة سمعته يقول: (في الألعاب الأولمبية يقفز أحدهم مترين فلا ينال شيئاً، ثم يليه لاعب آخر فيقفز مترين وثلاثة سنتيمترات فيمنحونه ميدالية من أجل هذه السنتيمترات الثلاثة التي ليست في حساب الأرقام بالأمر العظيم لكنها في حساب الإبداع والإنجاز هي سرَّ التفوق وهي التي تصنع الفرق بين ما هو جيد وما هو إبداع ولا سيما في العمل الفني). وأذكر مرةً، في أوائل الخمسينات عندما كنت مسؤولاً عن برامج إذاعة دمشق، أنه أخبرني عن مجيء فرقة موسيقية أرجنتينية شهيرة يقودها المايسترو (إدوارد بيانكو)، وقال لي: ليتنا نسجل للإذاعة بعض ألحاننا مع هذه الفرقة,. وبعد أن تم اتفاقنا مع الفرقة وسجّلنا لها المقطوعات المختارة سمعها عاصي فاكتشف أن واحدةً منها كانت ذات إيقاعٍ أبطأ بثوانٍ قليلة مما يجب أن تكون عليه فقال بضرورة إعادة تسجيلها، فاكفهر وجهي قليلاً لأن هذا كان يعني دفع تكاليف إضافية للفرقة إذا ما عادت وسجّلت من جديد، وكان ذلك أمراً صعباً بالنسبة لميزانية الإذاعة الضئيلة في تلك الأيام، وهنا التفت إليّ عاصي ونحن في غرفة التسجيل يهدئ من روعي ويقول (لا عليك، أنا مسؤول عن الأجر الإضافي). ذلك كان مثالاً واحداً من مئات الأمثلة التي تعبر عن جوهر عاصي الرحباني، كان دائم التضحية في سبيل الوصول إلى الإتقان، والكمال، والتميز، وإلى الأجمل. ومن هنا، ورغم مئات الأعمال والمسرحيات والأسطوانات التي قدّمها، عاش عاصي ومات فقيراً لأنه كان يعطي أكثر بكثير مما كان يأخذ. كان يتملكه أيضاً هاجس الوطن، هاجس الأرض والناس، ولذلك لم يكن محض مصادفة أن يتلازم بدء دمار لبنان في السبعينات مع بدء انطفاء عاصي فالاثنان نزفا معاً، كان شيئاً واحداً في الحياة، وفي التألق، وفي المصير. فليرحمك الله يا عاصي.. وليحفظك الله يا منصور.. وليحمك الله يا لبنان.
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved