الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th July,2006 العدد : 160

الأثنين 7 ,جمادى الثانية 1427

إطلالة على الرحابنة
فواز العساف

إذا اعتبرنا أبا خليل القباني هو رائد المسرح العربي، وإليه يرجع الفضل الأكبر في وضع أسس المسرح الغنائي العربي، حيث نقل الأغنية من قالب التخت الشرقي لكي يضعها فوق المسرح التمثيلي ، فأصبحت الأغنية بذلك جزءاً من العرض المسرحي، فإن الأخوين عاصي ومنصور الرحباني اللذين عرفا فيما بعد باسم (الأخوين رحباني)، هما رائدا المسرح الغنائي اللبناني ومبدعا الأغنية اللبنانية والعربية الفصيحة (القصيدة الملحنة) في بدايات القرن العشرين.
يقول أحد الباحثين في تاريخ الأغنية العربية: (الأغنية العربية نشأت في اليمن، ورقصت في مصر، ودبكت في لبنان، وبكت في العراق!!).
ربما قصد ذلك الباحث في مقولته عن الأغنية اللبنانية، الأخوين عاصي ومنصور، اللذين انطلقا من الواقع والمحيط في جبال لبنان الخلابة ومن موهبتهما الفطرية المبدعة، التي حولت مستقبلهما إلى الفن والتلحين.
يذكر أن عاصي كان يتمنى أن يصبح جواهرجياً ومنصور رجل شرطة، وقد استفادا من دروس الغناء والمبادئ الأولية للموسيقى والسلم الموسيقي في المدرسة اليسوعية في بكفيا وما تيسر من المقطوعات والمعزوفات العالمية التي كانت تصل إلى لبنان مع المهاجرين الأوائل، ومن خلالها تعرفا على السيمفونيات العالمية وظهر تأثرهما جلياً فيما بعد بالألحان الغربية كأغنية (يا أنا يا أنا أنا وياك).
رغم غزارة الإنتاج الرحباني وتنوعه بين ألوان الأدب العربي القديمة والجديدة في القصائد الملحنة كقصيدة (بروحي تلك الأرض) وقصائد جبران النثرية مثل (سكن الليل) إلا انه حافظ على أصالة فريدة طالت حتى الأغاني الشعبية التي أحيوها من جديد بقالب عصري وتوزيع جديد، كأغنية (بنت الشلبية) التي كانت بداية التعاون مع فيروز (نهاد وديع حداد)، البنت اللبنانية اللطيفة والخجولة والقادمة من بيت متواضعٍ مؤلفٍ من غرفة واحدة، لتلتقي في بداية الخمسينيات بلقاء العمر مع رفيق الدرب عاصي الرحباني توج بزواجٍ ناجحٍ في العام 1954 وسافرا إلى شهر العسل في الإسكندرية، حيث أثمرت هذه الرحلة عن أغنية (على شط إسكندرية) لقد شكل الثلاثي معاً (الثالوث الماسي) نواة المشروع الغنائي العربي المتكامل، الذي أغنى المكتبة الغنائية العربية بروائع الأغاني والمسرحيات الغنائية الناجحة شكلاً ومضموناً.
إن انطلاقة الأخوين رحباني بالاعتماد على إحياء التراثين اللبناني والعربي الثريين، مستخدمين أسلوباً عصرياً في التوزيع كان في حينها ثورة في عالم التوزيع الموسيقي والتلحين، وعلى موروث غنائي تعلماه على يد مجموعة من اللبنانيين الأوائل، ابتداء من كورال المدرسة اليسوعية في بكفيا، وانتهاءً بالروائع العالمية، والغناء عندهما يركز على المعنى قبل الحرف واللحن، فبالرغم من بساطة الكلمات وسهولة التعابير يحس المستمع انه لا بديل لهذه الكلمات إن حاول التبديل، فكأنها خلقت هكذا لتكون.
لقد أدخل الرحابنة الألحان الغربية المعتمدة على الهارموني، كما أخذوا الموسيقى الشرقية برأي الكثير من النقاد إلى مسارين مهمين:
1 - من الناحية التكنيكية اتجهوا لتأليف مقطوعات موسيقية تستند الى القواعد العالمية للتأليف مع الاحتفاظ بالطابع الشرقي ووزعوا الأنغام العربية ذات ربع الصوت، وهذا عمل فني لم يسبق لسواهم من الفنانين الموسيقيين أن قام بتنفيذه من قبل.
2 - أما المسار الثاني فقد قاموا بإحياء المسرح الغنائي العربي بإيجاد نوع من الأوبريت تتفاعل مع الإحساس العربي وتتلاءم مع مقتضيات العصر، حيث جسدوا الواقع اليومي من سفربرلك وترحيل الشباب إلى الحرب، إلى مقارعة المحتل الفرنسي وبطولة الثوار في الأفلام الغنائية هذا على الصعيد الموسيقي.
تميزت الكلمة عند الرحابنة بعفويتها وصدقها وقربها من القلب وتفاعلها مع مفردات الحياة اليومية التي نتعامل بها، دون اللجوء إلى المواربة أو الاختباء وراء مفردات معقدة، درج استخدامها في تلك الحقبة الغنائية.
يقول نجلهما المبدع زياد الرحباني عن طريقة والدته في اختيار الأغاني: كانت تفكر في الأغنية الواحدة سنة أو سنتين حتى تقرر موافقتها أو رفضها، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على الشعور العالي بالمسؤولية عند فيروز تجاه جمهورها والطريقة التي تتأنى بها في اختيار مفرداتها وألحانها وربما مردّ ذلك إلى مرحلة ما بعد انكسار الثالوث الماسي بموت عاصي والقطيعة مع منصور وهي التي كانت ترمي بكل ثقل الحمل على مهندس الكلمات وصانع الروائع عاصي الرحباني.
إن الإرث الغنائي الغني الذي صنعه الرحابنة، سيظل أمثولة وقصة مرحلة جميلة وناصعة ومشرفة في وجدان كل صباحات العرب وما نحفظه لهذه المدرسة الرحبانية أنها استطاعت أن تجمع كل القلوب والاسماع من المحيط إلى الخليج مستمدة قوتها من مفردتها السياسية والروحية (يا قدس) و(عائدون) وربما لم تجتمع الذائقة العربية قبل اليوم على اختلاف مشاربها على حب شيء، كحبها لفيروز ولألحان الرحابنة!!
كان يحسب لعاصي خوفه الدائم من المستقبل، وقلقه من نجاح ما سيبدعه في المرة القادمة، وهل سيرضي جمهوره الذي تربى على ألحانه فأصبح قادراً على فرز الغث من السمين، وربما هذا القلق الدائم الذي يطبع حياة العباقرة عجل برحيل عاصي المبكر، عن فيروزه الرائعة، وعن جمهوره الذي خسره وخسر إبداعه الفني الرائع... يذكر أن الرئيس جمال عبد الناصر كان معجباً بصوت فيروز.
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved