الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th July,2006 العدد : 160

الأثنين 7 ,جمادى الثانية 1427

مسرح لذلك الزمن
د.حنان قصاب حسن*

في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي كانت مسرحيات الأخوين عاصي ومنصور الرحباني من أهم الفعاليات الفنية الدورية في معرض دمشق الدولي وفي مهرجانات بعلبك.
وكان الجمهور يترقب هذه العروض ويتخاطف بطاقات حضورها في ظاهرة إقبال لم تعرف مثلها إلا حفلات أم كلثوم في الخميس الأول من كل شهر في القاهرة.
وبغض النظر عما كان الأمر في بعلبك، فإن دمشق كانت في تلك الفترة مدينة هامة تعيش نتائج تفاعلات الحراك الاجتماعي الذي ميّز الخمسينات والستينات.
وكانت البرجوازية المدينية تؤكد حضورها وانتصارها بمظاهر حياة اجتماعية تستعير من الغرب مكوّناتها: سهرات تتوزع ما بين دور السينما والمسرح والمطاعم والملاهي، حفلات افتتاح معارض الفن التشكيلي الذي بدأت صالاته تتكاثر في المدينة، عروض نادي السينما الذي كان يروّج لأفلام الموجة الجديدة، حفلات موسيقى الحجرة، عروض المسرح القومي... كانت تلك مرحلة الافتتان بالغرب، وكانت وسائل الإعلام ترسّخ هذه الفنون الجديدة بإفرادها برامج كاملة للتعريف بها، مما أسهم في تشكيل ذائقة جديدة مختلفة.
ما كان يمكن لأعمال الأخوين رحباني وفيروز أن تجد لها مكاناً في هذا الجو النخبوي لو لم تَسْتَعِرْ من الموسيقى الغربية إيقاعاتها وألحانها وشكل توزيعها وقِصَرَ مدّتها، فتجاوبت بذلك مع الذائقة الجديدة التي ما عادت تنسجم مع الطرب والآهات والأدوار الطويلة.
لكنها مع ذلك أعادت تعريف الجمهور الغريب عن تراثه الشعبي بتقاليد الميجنا والعتابا والزجل، وفتحت عيونه على جو القرية المجهول باحتفالاته ورقصاته ونشاطات سكانه.
كانت الأغاني والاسكتشات التي ألّفها الأخوان رحباني وراحت تبثها إذاعة الشرق الأدنى ثم إذاعة دمشق بصوت فيروز وحنان نوعاً جديداً من الموسيقى والغناء، وظاهرة مهمة أعادت صياغة التجربة الموسيقية العربية بنظرة معاصرة.
لم يُلغِ الأخوان الرحباني العود والقانون المعروفين في التخت الشرقي، لكنهما وضعاً إلى جانبهما البزق والبيانو والأكورديون والوتريات في توزيع أنيق متقن ينمُّ عن معرفة بقواعد الهارموني الغربية وبمقامات الموسيقى الشرقية في آن معاً.
كانت الأغنية لديهما قصيرة، شعرية، لا تتحدث عن اللوعة والفراق وإنما توحي بحكاية؛ لا مكان فيها للآهات، لكنها تغرف القلب بجمالها.
لم يشكل التانغو والكانتري ميوزيك والسامبا والرومبا التي ظهرت في ألحانهما غربة للإذن.
ذلك أنهما لم ينكرا التراث، وإنما طوّعاه في توليفة أصيلة تجاوبت مع الجمهور المعاصر الذي يتوق لما هو جديد.
وعندما قرر الأخوان رحباني أن يخوضا تجربة المسرح، ذهبا إليه بثقة من يعرف ما يريد. كانا يدركان جيداً أن المسرح الغنائي مضمون النجاح لأنه لم يكن غريباً عن المتلقي العربي الذي استقبل بإعجاب كبير أوبريت (العشرة الطيبة) لسيد درويش، و(مجنون ليلى) لعبد الوهاب وغيرها. لكنهما زادا على هذا المسرح الغنائي العربي ما في تقاليد الميوزيكال الغربية من مشهدية واستعراضية مبهرة.
وكما فعلا مع الأغنية، أقلم الرحبانيان هذه التقاليد الأجنبية مع أجواء القرية التي كانت منذ البداية الوسط الذي عاشت فيه حكايات مسرحياتهم؛ خاصة أن القرية تسمح برقصات الدبكة بتشكيلاتها الجماعية وألوان ملابسها المفرحة وإيقاعاتها المتوثبة.
وضعا على المسرح المختار والشاويش والبنات يحملن الجرار لينهلن من عين الماء، لكنهما رسما هذه الشخصيات المحلية بما يتلاءم مع تقاليد الكوميديا الغربية بشخصياتها النمطية وحبكتها القائمة على سوء التفاهم والالتباس.
وحين كتبا الحوارات المحكية والثنائيات الغنائية وأغاني الجموع، كانا يطوّعان تقاليد الأوبريت والميوزيكال لتتلاءم مع جوّ محلي بحيث لا يشعر أحد أنه أمام عمل هجين. لقد كانا في ذلك مثل سلفهما الكبير مارون النقاش الذي أراد المسرح ذهباً إبريزاً غربياً لكنه مسبوك في حلة عربية. في تحوّلهما إلى المسرح صار الأخوان رحباني والفرقة الشعبية اللبنانية وفيروز يقدمون كل سنة مسرحية على الأقل في تلك الفترة كان معرض دمشق الدولي بأجنحته المتنوعة وفعالياته الفنية، أكبر تظاهرة تجارية وفنية تجذب إلى دمشق الزوار من البلاد العربية القريبة والبعيدة.
في ذلك المسرح الصغير المكشوف على ليالي نهاية الصيف الهادئة كانت حفلات الجاز التي يعزف فيها لويس أرمسترونغ والباليه التي تتألق فيها راقصات البولشوي تشهد الحضور الأنيق لرجال ونساء يرتدون لباس السهرة، يدخلون بهدوء الممر المحفوف بالديكورات التجريدية والمزروع بالنباتات العطرية والتزينية ليأخذوا أماكنهم وهم يحيّون الأصدقاء على اليمين واليسار.
كانت البورجوازية الدمشقية والحلبية في مسرح المعرض تجتمع وتتكتل في اتفاق غير معلن، فكأنها تغلق بذلك على نفسها جدران شفافة لا تُرى، لكن يشعر بها من لم يكن ينتمي إلى تلك الطبقة، فيتراجع خجلاً كأنه دخل بمحض الصدفة نادٍ خاص لا مكان له فيه.
هذا الجمهور المترف المفتون بالغرب استقبل مسرح الرحباني وأجواءه الريفية بترحابِ من يشهد عالماً إيكزوتيكياً شذّبه المسرح فجاء نظيفاً لامعاً محبباً.
كان أبناء البرجوازية هذه يرون في مسرح الرحباني مرآة تعكس لهم صورتهم، لكن ضمن عالم متخيل؛ تماماً كما كان يسعدهم أن تظهرهم البورتريه الفوتوغرافية الدارجة في تلك الفترة متنكرين بملابس أهل الريف والبدو.
لكن ما الذي جعل مسرحيات الرحباني تجذب هذا الجمهور الذي لم يكن يتطلع إلا إلى فنون الغرب؟ وكيف استطاعت هذه الأعمال أن تجمع في نفس المكان رجال السياسة والكوادر المهنية من أطباء ومهندسين وحقوقيين وصناعيين، والنخبة المثقفة من كتاب وشعراء وصحفيين ومدرّسين، وأبناء الطبقة الوسطى الذين كانوا يقتّرون على أنفسهم ليستطيعوا الذهاب لحضور حفلات فيروز والفرقة الشعبية اللبنانية؟ لقد استطاعت هذه المسرحيات أن تلبي كل الأذواق وأن يرى فيها كل متفرج ما يعجبه.
لم يكن الرحبانيون ثوريين، لكن الشعارات التي أطلقوها ما كانت تتعارض مع المقولات التي حفل بها ذلك الزمن. لم يكن مسرحهما شعبياً بالمعنى الذي أراده جان فيلار، لكنه لم يكن في الوقت ذاته منسلخاً عن قضايا الشعب.
لا دعاة التقاليد استطاعوا أن يرفضوه طالما أنه ينهل من الموروث المحلي، ولا محبو التجديد عزفوا عنه طالما أنه بعبثيته وشرطيته كان يذكر بتيارات التجريب في الغرب.
أبناء الريف لمسوا فيه ما يذكرهم ببيئتهم المحلية، وأبناء المدن وجدوا في أجواء القرية رومانسية محببة: (ما احلاها عيشة الفلاح)، كان يشدو عبد الوهاب في أفلامه التي لا تبتعد كثيراً عن تلك الأجواء.
لم يحاول الرحبانيون في مسرحياتهم أن يعقّدوا أمور الحياة. كانت الحبكة لديهم بسيطة تقوم دائماً على صراع بين الخير والشر، وتنتهي بتوفيقية مريحة تقوم على اندحار الشرير وتوبته، أو على تنحّيه الطوعي عن مكانه السلطوي لصالح المحبة والوئام.
لا ثورة في هذه المسرحيات ولا صراع طبقات، فالحب ينتصر دائماً في النهاية، والشر حالة مؤقتة سرعان ما تنزاح تاركة مكانها للمصالحة المتّوجة برقصة الدبكة الفرحة في النهاية.
في هذه المسرحيات ينزل الحاكم من قصره ليسأل عن الناس (ناطورة المفاتيح)، أو يسمع غناءهم من بعيد فيعود طفلاً صغيراً (صح النوم) أو يكتشفه من جديد فيتحول إنساناً عادياً ملَّ من قيود السلطة لأنه (يتونس بالناس) (الشخص)، أو نراه في أكثر أعمال الرحبانيين راديكالية ينسحب من الأرض التي احتلها تاركاً البلد لشعبه الأصلي (جبال الصوان).
فيما عدا المسرحيات التاريخية البحتة (فخر الدين، بترا، البعلبكية)، تبدو أعمال الرحباني بعيدة عن المرجعية الواضحة، وإن لم تكن خارج الواقع أو خارج التاريخ.
لا مكان جغرافي محدد، وإن كان لبنان حاضراً في الأذهان؛ ولا زمان تاريخي، حتى ولو تعرّف المشاهد فيها على أشياء راهنة. الزمان هو دائماً مرحلة انتقالية من الظلم إلى العدل، ومن الشر إلى الخير. والمكان كذلك هو الحد الفاصل الذي يسمح بالعلاقة بين العام والخاص (بيت البائعة ومكان المشترين في الليل والقنديل)، بين السلطة والناس (قصر الملك والباحة حيث يحتشد أصحاب الطلبات في صح النوم)، بين مكان الاستقرار ومكان الرحيل (سكة القطار المفتوحة على حلم السفر في المحطة)، بين الشعبي والرسمي (ساحة البائعين التي يجب إفراغها لاستقبال الشخص)، بين المُحتل والسكان الأصليين (البوابة التي استشهد عليها مدلج وتموت عليها غربة في جبال الصوان)...
في بعض الأحيان يتحدد المكان ليصير قرية، لكن الديكور الشرطي يبتعد بهذه القرية عن أي طابع محلي: بيت وسياج وشجرة، وتلك الساحة التي يجتمع فيها الناس للنقاش والبيع والاحتفال.
لا حقل ولا زراعة ولا فلاحين في تلك القرى التي يُظهرها مسرح الرحباني، بل بيع وشراء (بيع الخواتم والقناديل والأقنعة)، وصناعة يدوية (دواليب الهوا، القناديل، صناعة الأحذية).
في أحيان أخرى يكون المكان مدينيّا، لكنها مدينة تضيع ملامحها تماماً في عمومية الطرح لتُختزل إلى مجرد ساحة، كما يتقلص نشاط سكانها إلى بعض المجالات الخدمية (عمال الطرق، الخادمات، البائعون، عمال التنظيف).
ولا بأس لكي تكتمل الصورة من بعض الحالات الهامشية التي يحوّلها الشعر إلى مغامرة وفلسفة (المهرّب، وقاطع الطريق، والشحاذ والحرامي).
كذلك الشخصيات التي بقدر ما هي واقعية تشبه أفراداً يعرفهم المتفرج، بقدر ما تأخذ شكل خطاطة لا كثافة لها لأنه تنتمي إلى عالم الأنماط المعروفة في المسرح: الفتاة الطيبة، الشيخ المتصابي، المرأة الشريرة، الساذج.
وهي تُعرّف إما بدرجة قرابتها (الخال، الجد)، أو بوظيفتها (الامبراطور، الوالي، الملك، المختار، الشاويش، بائعة البندورة، ناطورة المفاتيح، الحرامي، الشحاذ، شاكر الكندرجي، الدكتور، شيخ المشايخ) أو بطباعها (شهوان، فاتك المتسلط، كاسر، الهبيلة)؛ أو أنها تكون تجريدية لدرجة غياب الاسم والصفة كما في حالة (الشخص) في المسرحية التي تحمل اسمه.
وفي كل المسرحيات تظهر السلطة على شكل امبراطور أو ملك أو والي أو مختار، لكنها سلطة لا تُرعب ولا تؤذي، ويكفي التحايل عليها وإيقاظ الطيبة داخلها لتصير مقبولة.
كان مسرح الرحباني، ببنيته الثابتة وشخصياته النمطية ومكانه الحيادي يبدو وكأنه مبنيّ برمته على الحضور الطاغي لفيروز.
وكما في الأوبرا تكون أهمية الصوت شرطاً لتحديد أهمية الشخصية في سلم المراتب، كانت فيروز بصوتها الأساس الذي تبنى عليه الحبكة، والشخصية المحورية التي تجتمع عندها خيوط الحدث، والنابض الذي يدفع الأمور نحو الحل.
وما عدا دور (لولو السويعاتية) التي تبحث عن الانتقام، و(قرنفل المزاجية) التي تسرق الختم وتصرّف المعاملات حسب رأيها بأصحابها، كانت فيروز بشكل دائم البطلة التي تجسد البراءة والحب والنقاء، والضحية التي تثير شفقة المتفرج وتعاطفه، وبذلك تتوافق تماماً مع صورة البطل الكلاسيكي الذي يجسد القيم الإيجابية ويحمل كل الصفات الجيدة الضرورية لتحقيق التمثل. لقد شكلت التجربة الرحبانية في المسرح الغنائي العربي ظاهرة مهمة.
وبغض النظر عن موقعها ضمن مسار المسرح العربي بالمطلق، وبغض النظر عن ديمومتها أو قدرتها على التحول إلى موروث أو إلى نوعٍ يكتب فيه الآخرون، فإن التجديد الذي حملته كان كبيراً، وتأثيرها على المتلقي عميقاً. لكن ذلك المسرح كان لذلك الزمن ولذلك الجمهور.
أما اليوم وقد غاب عاصي وانفكّت فيروز وسار منصور في منعطفات جديدة؛ اليوم وقد فقدت دمشق مواسم معرضها الذي رحل عنها إلى الأطراف، وتغير الجمهور وتحولت ذائقته، فإنه يبدو من الصعب تقييم ما تبقى من التجربة قياساً على ما انقطع. ربما يلزمنا أن نتخلص من افتتاننا بذلك الماضي لكي ننظر إلى الحاضر بعين موضوعية، وأن نبتعد بالزمن بعيداً لكي نطلَّ على مسرح رحبانييّ اليوم. لكن الوقت ما زال مبكراً على ذلك.


* جامعة دمشق

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved