الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th July,2006 العدد : 160

الأثنين 7 ,جمادى الثانية 1427

(فيروزيات)
ماجد الحجيلان

هناك مشتركات إنسانية ينطوي عليها كل أحد لسبب ما، مثلما أن هناك (شادي) ضائع في داخل كل أحد، استفاق فلم يجده، بل وجد أنه كبر فجأة (وشادي بعده صغيّر)، وهناك حنين صغير يسير على قدميه الحريرتين داخل كل أحد لكنه لا يعرف لمن حنينه، وهناك قطعا في الداخل من الكل حب وحنين وطفل صغير أيا كان لون عينيه،.. مع كل هذه المخبوءات لا تحتاج إلى أن تعرف من هي نهاد حداد وزوجها عاصي وابنها زياد، ولا من أي بلد جاء والدها المطبعجي وديع، وكيف التقى زوجته الشوفية ليزا البستاني، إنك لا تحتاج إلى تلك الحمولة من المعرفة لينساب صوت فيروز مثل الماء إلى مسامك، أو ليسرق حواسك ويطوف بها معه حيث شاء.
لكن كيف يمكن لأحد أي أحد أن يزعم الكتابة عن فيروز دون أن يسأل ابتداء سؤال فواز طرابلسي الذكي في كتابه (فيروز والرحابنة): (كيف يمكن الكلام عن صوت؟ وكيف إذا كان الصوت هو صوت فيروز؟)، بعد ذا يمكن التورط في توصيف أثر الصوت لا هويته التي عجز موسيقيون عن فك شيفرتها، إنه ذاك الاستلاب الشفيف والانبهار اللذيذ الذي يتركك خاضعاً بكل الرضا لما يسرقك من الزمان والمكان، مستسلماً لتلك الشحنات الصغيرة البريئة من الأنغام التي تغدو خلجات فيك وتقول لك (مُرَّ بي يا واعدا وعدا)، مجرة ملائكية تهبط على المسرح وعلى السمع والبصر بكامل بهائها وألقها لتحتل موقع القلب وتستقطب لفتات الروح، الصوت الذي يرفرف بجناحي طائر لا نهاية لبراءته، يطير (كمكتوب غرام قادم من كوكب آخر أو كتفاصيل حب قديم) حسب نزار، فتحار هل يطلع من داخل الداخل بما هو حنين غامض.. ألم وتوجّد.. فرح واحتفال فرداني.. أم يجيء من خارج الخارج بما هو نداء من عالم الماوراء أو صدى لإنسانية لم يعد لها وجود، أو هو صوت الروح ذاتها منفلتا من سجنه يفتش عن حرية كما تعترف صاحبته: (ما يصل مني إلى الجمهور هو ما لا أستطيع السيطرة عليه من روحي..)، فيروز (الطفلة الخائفة من هذا العالم) كما يعبر أنسي الحاج، هل كانت تقرأ الغيب وحليم الرومي يخيرها بين (شهر زاد) و(فيروز) في مستهل شبابها، وبعد تردد يخفق قلبها لفيروز.. حجر تركوازي نصف كريم لصوت نصف بشري، شفاف وملون لشفافية ملونة ومطيفة، فيروز السيدة التي تحضر على المسرح بوصفها نايا وقصيدة، ولذا تساءل إلياس الخوري: ( كيف تغني القصيدة قصيدة أخرى؟ ولأيهما نستمع؟)، صحيح أنك تراها واقفة بين أعمدة بعلبك كأنها قادمة من اللامكان، لكنها تجيء صوتاً حزين العينين، لا فيزياء عارية كما أخريات، ثم إن علاقة القصيدة بفيروز لا تنتهي عند غنائها أو شعرية صوتها، بل تمتد أطياف الشعر إلى كل ما هو فيروزي أو رحباني، و هو ما يبرر لإيميل حبيبي أن يفرز الشعر في مقدمات قصصه بين قصائد غنتها فيروز وقصائد لم تغنها فيروز، وربما كان حسم الموقف من صوت فيروز داخل الأغنية أحد أهم الأمور في تذوقها، هل هو جزء أصيل من الموسيقا ذاتها أم هو صوت وكفى؟ بمعنى هل أن صوت فيروز ظاهرة طبيعية كما عنونت صحيفة برازيلية، أو أنه من الأصوات العشرين الأُوَل في القرن العشرين كما يرى موسيقي إنجليزي.. لا أحد يسعه الجزم. فيروز (الأغنية التي تنسى دائماً أن تكبر) على ذمة محمود درويش، احتفلت قبل أشهر بسبعينها في عزلتها وتبتلها الشهير، أما ميلادها الذي يصادف عيد الاستقلال اللبناني فهو أوحى لمثقفين بكتابة بيان يطالبون فيه بأن يكون يوم ميلادها عيداً وطنياً وهو ما رفضته قطعاً، ضمن جملة ما ترفضه بسبب مواصفاتها القاسية لأي لقاء أو ظهور في مناسبة أو حفلة، هذه المواصفات التي طبعت حياتها وفنها بطابع إغريقي وأحاطت شخصها بهالة القديسة لا هالة المطربة، وهي أيضاً الشروط التي رفضها صحافيون مصريون لدى علمهم بمفاوضات الأوبرا المصرية مع سيدة الصباح للغناء في الأوبرا، بعد انقطاع خمسة عشر عاماً عن الغناء في أرض الكنانة التي شهدت كتابة وغناء قصيدة (راجعون) أول تباشير الأسطورة الرحبانية الفيروزية أوائل الخمسينيات، فلم يشفع لجارة القمر شهادة أم كلثوم ولا إعجاب عبدالناصر ونخبة المفكرين والفنانين والموسيقيين في مصر، إذ لابد أن تنفث الأقلام المحتقنة حبرها.
في الأيام القليلة الماضية انطلقت التحايا القلبية المحبة تجاه فيروز والرحابنة في الذكرى العشرين لوفاة عاصي، إذ وقف كتاب لبنان وموسيقيوه ومثقفوه تحية لفن عاصي بوصفه أرزة من أرزات لبنان انغرست في جبله وعشقت سهله وشماله وجنوبه، تحايا هي اختلاجات عشاق ومحرومين ووالهين لا ترجو مالاً ولا تخشى سطوة، وهو ما يعزز حقيقة أن الإبداع يخلق المحبين ويورث الوفاء لا الأحقاد ولا الضغائن الصغيرة.. ربما لا تجد وصفاً لغياب عاصي عن الموسيقا والشعر اللبنانيين أبلغ من وصف عقل العويط في بكائيته أو قل رثائيته بهذه المناسبة، فهو وصف غياب عاصي الرحباني بأنه (غياب كثيف) إذ كيف يكون الغياب حضوراً في آن؟ غياب يدهم روحك صباحاً عبر المذياع ويشاركك صبواتك وآلامك ببيت شعر أو جملة موسيقا؟ فهل كان عاصي موسيقياً فقط أم كان شاعراً؟ أهو حقاً (كبير شعراء لبنان.. الشاعر الذي دخل التاريخ لكن بوصفه موسيقياً) كما يعبر إلياس الخوري، عاصي الذي قرر أن يحارب الحرب بأسلحة هي الشعر والنغم والمسرح فسلبته الحرب أو الحروب وطنه، ثم ابنه زياد الذي هجر البيت، ثم زوجته وأغنيته فيروز، حاول أن يعوض وطنه لا بموسيقا وطنية وإنما بوطن من موسيقا أو وطن موسيقي، عاش عاصي في اللغة.. داخل نسيجها وكتب بمشاركة أخيه منصور الحب والغزل والوطن كما لم يكتبه أحد، بزجليات يستعصي على الزمن أن يراكم عليها غبار تحولاته لفرط صقلها، حتى غدت قصائدهما ومسرحياتهما التي شدت بها فيروز خارجة عن مقاييس التقادم وشروط التحولات في الذوق والموسيقا والشعر، شعر الرحابنة لا يمكن وضعه إلا في القلب من الشعر ذاك المزيج من الأندلس وموشحاتها، والزجل ورقته، والحكمة الشعبية بتلقائيتها.
جاء احتفال المثقفين اللبنانيين بهذه المناسبة فعلاً ثقافياً حضارياً يذكر بتعبير نزار قباني عن فيروز (مررنا تحت أقواس صوتها الحضاري فتحضرنا)، وإن أخذت عليه الزج بهذه الذكرى العزيزة في تشقيقات السياسة، وهي الذكرى الثقافية الفنية الوطنية، ولكن كيف يمكن لحدث أو مناسبة ما أن تكون بلا سياسة في الأيام اللبنانية هذه، كما أنك تتردد في توجيه اللوم لمعالجة كهذه إذا ما عرفت - كما يقرر فواز طرابلسي في كتابه - أن مسرحيات الرحابنة كانت أشبه ب(جردة إخبارية وتحليلية وتقييمية لأبرز أحداث وقضايا وتطورات العام المنصرم) وأن الرحابنة ليسوا (ظاهرة فنية وثقافية فقط، وإنما هم أيضا ظاهرة سياسية واجتماعية وإيدلوجية).
ولعل بحث فادي العبدالله الذي نشره في (النهار) بهذه المناسبة كان أكثر توفيقاً، وهو يعترض على تفسير فواز طرابلسي للمعجزة الرحبانية ب(صوت فيروز، ولا حاجة لمزيد) ضمن أربعة أسباب هي العبقرية الموسيقية والشعرية والمسرحية، والشمول الوطني، وأن الفن الرحباني فن شعبي.. مبرراً هذا الاعتراض بوحدة العمل العضوية وفرادته في التاريخ العربي المعاصر، وهو اعتراض ذكي إذ إن الانشغال الذي يعانيه موسيقيون ومؤرخون لبنانيون في تفكيك الظاهرة الرحبانية ومحاولة تمييز حصة عاصي ومنصور وفيروز ثم زياد من هذا العمل المشترك، يتجاهل أن الأعمال الفنية التي تستدمج وسائط متعددة كأعمال الرحابنة السمعبصرية، بشعرها وغنائها وتمثيلها، تتعامل مع الشعور واللاشعور، والعقل كما القلب، والذوق كما الثقافة، وهو ما لا يقبل قياسه بكل العِدد الهندسية، ولا إخضاعه للمختبرات النقدية، وإن استصحبت ثقافة موسيقية وشعرية وتوسلت حياداً وبراءة وإخلاصاً، وعددت ما لا نهاية له من الشواهد والأرقام،... هناك لاسبب مفتوح على المطلق يقف خلف ذيوع قصيدة أو أغنية ما رغم بساطتهما الفنية، وخمول أخريين رغم ولولة النقاد والنخبة حولهما.
كما فطن فادي العبدالله بذكاء إلى ما تميزت به الموسيقا الرحبانية عن غيرها عبر انفرادها بموسيقا مستوحاة من قداديس الكنائس المشرقية وترانيمها وتراتيلها (خلافاً للمشاريع الموسيقية العربية المرتبطة عموماً بالتجويد..)، أما الظاهرة التي يمكن لوم كثير من الكتاب عليها، فهي الوجل الشديد وهم يقاربون أعمال فيروز الأخيرة مع ابنها زياد، بينما ستكون هذه الكتابات النقدية أكثر تأثيراً وجدوى لصوت فيروز وموسيقا الرحباني الابن لو أنها لم تجئ مواربة وكانت أكثر مباشرة تقترح وتعترض، لا تتفرج وتتحسر على ما يظنه الكبار ذكريات صباهم ووثائق مغامراتهم العاطفية وميراثهم الوجداني في الصوت الفيروزي، فبقدر ما احتفل نقاد شباب بألبومات زياد الأخيرة مع والدته، تحفظ الكبار عنها وهم يحذرون بخجل وإشارات بعيدة من (استيلاء) زياد على صوت والدته، والطريف هنا أن نجاحاته معها في أغان جميلة يرونها مجرد توزيع جديد أو سطو على مخطوطات والده، بينما إخفاقاته منسوبة إليه وحده!
سيظل ملف الرحابنة وفيروز مفتوحاً ما دامت موسيقاهم حية ومؤثرة كما هي الآن، داخلة في التاريخ الغنائي حاضرة في يوميات الناس، تطل من كل مذياع، ويرهف السمع لها كل مغرم ومغرمة، ويوماً ما سيفطن أحد ما إلى المعاني الملحمية التي يمكن استشفافها من قصة حب وزواج عاصي وفيروز، من حياتهما الشخصية والموسيقية، من وفاة عاصي الأسطورية بعد أن صنع أغنية اسمها فيروز، ومن المآسي التي هي الوجه الآخر لحياة فيروز المطربة، ابنة ينشب الموت أظفاره في ريعانها، وابن مقعد يورث الحسرة في القلب والحزن في الصوت المائي، وفراقان مع حبيب العمر، انفصال حياتي وفني، ثم غياب سرمدي ممتد حتى تخوم اللانهاية، لا تجدي معه الرسائل المرمزة في (سألوني الناس عنك ياحبيبي) ولا يصل إليه (مرسال المراسيل).


hujailan@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved