الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 03th July,2006 العدد : 160

الأثنين 7 ,جمادى الثانية 1427

شجن الناي وجنون الجاز
خليل صويلح

لم يشتغل نص غنائي عربي على المشاعر وحدها، مثلما فعل النص الرحباني، فقد ذهبت هذه الورشة الخلاّقة (عاصي ومنصور وفيروز)، إلى مناطق بكر في ترشيد الأحاسيس ومخاطبة الجذور النائمة وإيقاظ العشب في حقول بعيدة ومهملة. والغريب حقاً أن هذا النص عصي على النسيان أو الموضة، فهو عابر للأزمنة، مثل راية يسلمها جيل إلى جيل آخر، كي لا تقع هزيمة محققة في الأرواح. كانت أم كلثوم مثلاً، رمزاً لمرحلة، لا تخلو من استبداد عاطفي وذكوري أحياناً، فهي (كوكب الشرق) وإمبراطورة الغناء والطرب، فيما تسللت حنجرة فيروز إلى الصباحات الجماعية كي ترافق صخب النهار، ليمتزج صوتها برائحة هال القهوة، ثم في الحافلات العامة، وكأنها طمأنينة مؤقتة لكل البشر،قبل أن يضيعوا في زحام العمل والرغبات. كنت أتساءل أحياناً، بعد هجوم قطيع من المغنين والمغنيات الجدد: ماذا لو لم تكن فيروز جزءاً من حياتنا، أو لو لم يخترع الرحابنة هذه المعجزة، منذ ذلك الوقت المبكر، هل ستذهب حياتنا إلى نفس الجهات، وكأن شيئاً لم يكن؟ لا شك سوف تكون الخسارة فادحة.
للصوت أشكال لا تحصى من الرنين، لكن رنين صوت فيروز وحده المختلف في صداقته وغرابته وعاديته أيضاً، فهو يشبهنا جميعاً، حين نتنشق رائحة عطر ما، ليرتبط إلى الأبد بحادثة محددة، تخاطب الحواس كلها. عطر صنعه أقدم الكحالة العرب بوصفة سرية، لم يكتشف أحد إلى اليوم بدقة، مما تتشكل عناصرها وخلائطها البرية. صوت فيروز قادم من البرية حتماً،من طراوة ملمس العشب، وعبق زهر البابونج، وخرنوب منسي قرب صخور الجبال العالية.
لا أريد أن أتوغل في الرومانسية، لكن فيروز تشتغل على هذه المنطقة باستمرار ودأب، لأنها تصنع حياة موازية، تخفف عبء ماهو معيش.
صوت مبلل بالمطر ورائحة الثلج لحظة سقوطه وذهب أيلول تحت الشبابيك، ومفردات أخرى تحتاج إلى معجم سري لفك رموزها، فهي لفرط بساطتها ويوميتها واعتياديتها، يصعب اختبارها جمالياً،إذ تحتاج إلى تفكيك معرفي وبلاغي يوازي ذلك العالم السري للصوت والشعر (العامي؟). أرغب أن أضع أغاني فيروز في سياق مقترح، قصيدة النثر في أبهى نماذجها، وهي فكرة لا تخلو من طيش لدى البعض، فهذه القصيدة أو الأغنية، تتخفف في نبرتها ومقاصدها من البذخ البلاغي، نحو الهواء الطلق، لتقول ما تشاء بأبسط الأدوات، ولعل الفكرة التي تؤكد أن مهارة البساطة أصعب من مهارة التعقيد، صائبة تماماً فيما يخص النص الرحباني على وجه العموم،فهذه البساطة المتروكة جانباً لدى الآخرين، تأخذ شكلها وحيويتها بأصابع هؤلاء الخزّافين المهرة، وبحنجرة فيروز، الحنجرة الزرقاء التي تشبه سماء صافية،بغيوم تسبح بعيداً. على أن فيروز ليست أيقونة، غير إنها تشبه الرسوم الشعبية المطرزة على مخدات النوم، تدعونا إلى أحلام سعيدة، إذ تتجاور عناصر متنافرة ظاهرياً، لكنها حين تجتمع معاً، تشكّل جدارية ضخمة محبوكة بخيوط من حرير طبيعي. هكذا ظلت فيروز مخلصة في صوتها وصورتها لذلك الزمن البهي للأحاسيس المشرقة، بعيداً من الغرائز، من دون أن تتردد بدخول مغامرات حقيقية،خصوصاً عندما تمكن زياد الرحباني إلى سحبها نحو بساطه الشعبي لتغادر سجادة العائلة، ولتدخل بثقة إلى الأزقة الخلفية للحياة اليومية بقاموس غرائبي يحمل بصمة الابن العبقري والمجنون، ففيروز الأمس هي بكل الأحوال غير فيروز (هدير البوسطة)، و(معرفتي فيك)، و(كيفك أنت)، هكذا تدخل تعابير جديدة إلى أغنيتها مثل الخس والزيتون وملا أنت، من دون أن نحتج على هذا التحول، إنما العكس تماماً، وكأن زياد وهو يختبر حنجرة فيروز في هذه المنطقة الملتبسة، يسعى إلى خلخلة التاريخ الرحباني لها بتاريخ مضاد، يشبه اللحظة الراهنة بكل تشظياتها، بعيداً عن الرومانسية الريفية التي لم تعد موجودة إلا في بطون الكتب، ليؤكد قولاً آخر، وهو أن فيروز تصلح لكل الأزمنة وكل الأدوار، سواء في شجن الناي أم جنون الجاز.
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved