Culture Magazine Monday  03/09/2007 G Issue 214
أوراق
الأثنين 21 ,شعبان 1428   العدد  214
 
حضور التاريخ عند زكريا تامر
سليمان مبروك الطعان

 

 

تشكل العودة إلى التراث واستلهام شخصياته عنواناً بارزاً في مسيرة الأدب العربي في الثلث الأخير من القرن العشرين، وقد بدأت هذه الظاهرة في منتصف الستينيات من القرن المنصرم، وتطورت لتشكل الظاهرة الأكثر وضوحاً في أدب السبعينيات، وكان الشعراء هم السباقين إلى استحضار الشخصيات التاريخية، وتوظيفها في نصوصهم الشعرية. ولعل الشخصيات المتمردة على الظلم والباحثة عن العدالة والمساواة هي الأكثر حضوراً في النصوص الشعرية.

ولم يكن هذا الحضور الكثيف للشخصيات التاريخية خدمة لغايات فنية صرفة، ولكنه محاولة من الأدباء لتسليط الضوء على أسباب الهزيمة والانكسار في الحياة العربية، وخصوصاً نكسة حزيران وما تمخض عنها من خيبة أمل كبيرة وشعور عام بالإحباط والعبثية. فلم تكن الهزيمة عسكرية فحسب، ولكنها كانت هزيمة حضارية أيضاً، ولذلك اتجه البحث إلى إعادة هيكلة البنى الفكرية والاقتصادية والثقافية للمجتمع، ولما كان الحاضر كئيباً مظلماً، فقد التفت الأدباء إلى الماضي يستمدون منه العون والقوة لمواجهة قسوة الواقع الراهن وإخفاقاته، وإظهار دمامته وقبحه.

وربما كان زكريا تامر أكثر القصاصين السوريين استلهاماً للشخصيات التاريخية، واستحضارها ليظهر من خلالها التناقض القائم بين المفاهيم التي تحكم الحياة العربية الراهنة، والقيم التي آمن بها من سبقونا، فكانت عاملاً في تفوقهم الحضاري.

ومن الملاحظ أن الشخصيات التاريخية عند زكريا تامر تقدم بطريقة متشابهة تقريباً، إذ يستوقف الشرطي - وهو رمز للقيود التي تكبل الذات العربية - الشخصية وهي تسير في الشارع، ويقتادها إلى المخفر لتستجوب، ثم تحاكم على ما ارتكبته من جرائم بحق الوطن والأمة، فتصرخ بأنها فعلت ذلك بناء على مقتضيات الواجب، كما في قصة طارق بن زياد الذي يقاد إلى المحكمة بتهمة تبديد المال العام؛ لأنه أحرق السفن بعد إبحاره إلى الأندلس، وحينما يقول: إن المعركة كانت تحتم عليه اتخاذ مثل هذا القرار، يجاب بأنه لم يأخذ إذن رؤسائه، فهو خائن؛ لأن إحراق السفن كان ضربة لاقتصاد الوطن وقوته.

ولم يقتصر زكريا تامر في استلهامه على الشخصيات إبان ازدهار العربية - الإسلامية وقوتها. ولكنه يستحضر الشخصيات ذات الأثر الواضح والمواقف الحاضرة في الذاكرة. فبطل قصة (الاستغاثة) هو يوسف العظمة، وزير الحربية في الحكومة الفيصلية التي تشكلت في عام 1918م بعد خروج الأتراك من بلاد الشام، وهو الذي قاد الجيش السوري في معركة ميسلون التي سقط فيها شهيداً أمام القوات الفرنسية المندفعة نحو دمشق، وليوسف العظمة تمثال في ساحة معروفة في دمشق.

وتبدأ القصة حينما يسمع التمثال صوت استغاثة، فيتحرك تلبية للنداء؛ لأن أهل دمشق نيام. وهذه دلالة على العجز أو الخنوع الوبيل الذي حل بالمدينة، ولكن حارساً ليلياً يستوقفه مستغرباً منه هذا السلوك، فهو يحمل سيفاً والقانون يحظر حمل الأسلحة. ويجيب الرجل بأنه وزير الحربية، وأن مهنته تقتضي منه حمل السيف، ولكن الحارس يهزأ بالرجل، فالوزير لا يمشي في آخر الليل كالشحاذ، بل يركب سيارة طويلة، والوزير لا يحمل سلاحاً، وإنما يرافقه شرطي مسلح بمسدس. أما السيف فلم يعد سلاحاً، ولكنه غدا وسيلة للزينة يعلق على جدران الغرف كالتحف الأثرية.

إن السيف هو الأداة الحربية التي كان الأجداد يستخدمونها، وهو رمز للإباء والشمم والعنفوان، ولكل ما يتحلى به العربي من قيم أصيلة. وأما تعليقه على الجدران كالتحف الأثرية فلا يشير إلى خروجه من الحياة العربية المعاصرة بمقدار ما يدل على اختفاء القيم والتقاليد الملازمة له.

ولعل لجوء القاص إلى الذاكرة التاريخية لا يعني بالنسبة له الفرار من الحديث المباشر الصريح عن واقعه والنكوص إلى أحلام الماضي العذبة، ولكنه في هذا الأسلوب يطمح إلى تقديم محاولة جديدة لصياغة هذا الواقع عبر طرق تنتمي إليه، وتساعد على تجليه وإيضاح أزماته وانكساراته.

ونجد الشنفرى في القصة التي تحمل الاسم نفسه مختلفاً عما هو عليه في الواقع التاريخي، لقد عاش الشنفرى في العصر الجاهلي حياة التشرد والبطولة، ولكنه يظهر هنا بطريقة مغايرة تماماً. فقد باع سيفه قبل سنين واستقر في مدينة كبيرة، ففقد كل ما تميزت به شخصيته من شجاعة وبطولة وكبرياء تأبى الضيم والذل، لذلك نراه يبدأ بالمواء مقلداً صوت القطط. إن البون شاسع بين ما كان عليه البطل في الماضي وما آل إليه في العصر الحاضر، لقد تحول إلى قزم يستوجب الشفقة والرحمة من جانب القارئ.

وفي قصة أخرى يساق عمر الخيام إلى المحكمة بتهمة الدعوة السافرة إلى استيراد البضائع الأجنبية، وتنفيذ مخطط مشبوه يهدف إلى إثارة الشغب، وتدمير الاقتصاد القومي.

ويستلهم زكريا تامر في بعض قصصه الشخصيات ذات الأثر السلبي في التاريخ العربي كجنكيز خان، وكليبر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون في قيادة الحملة الفرنسية على مصر، وقد قتل على يد سليمان الحلبي.

إن زكريا تامر بمحاكمة بطولات الماضي وانتصاراته يطمح إلى إدانة واقعه المعاصر وإثارة النقمة عليه في نفوس قرائه. وبهذه الطريقة يعتقد أنه يعري الجوانب السلبية في الحياة العربية ويحرض على تجاوزها.

على أن هذه الظاهرة فيما يبدو لنا تتعالى على المشكلات التي يعاني منها المجتمع، كالبطالة والفقر وانتشار العنف وغير ذلك من الأزمات. إن زكريا تامر في رأينا يتناسى هذه المشكلات ويدير لها ظهره متجهاً صوب التاريخ، لعله يجد في صفحاته ما يدفع عنه شؤم اللحظة الحاضرة، كما أنه يقع في تبسيط مخل حينما يرجع أسباب الهزيمة في أحيان كثيرة إلى سبب واحد، مغفلاً بذلك حقيقة بدهية أن الانكسار الذي يعاني منه مجتمع من المجتمعات يشمل كل مظاهر الحياة في ذلك المجتمع، كما أن زكريا تامر حينما يستحضر الشخصية التاريخية يركز على إنجازها الفردي وبطولتها العسكرية، ومن الملفت للنظر في هذا الصدد أن أغلب الشخصيات هي لقادة عسكريين.

يبقى لنا أن نقول في النهاية: إن الإيمان بالبطولة الفردية منهج غير سديد في الدعوة إلى النهوض والتقدم، ذلك أن التحولات الكبرى لا يصنعها الأفراد، وإنما هي محصلة عمل جماعي يشترك فيه أبناء المجتمع على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم. أما الفرد فهو لبنة واحدة في بناء كبير متكامل.

sulaiman_altaan@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة