Culture Magazine Monday  03/09/2007 G Issue 214
أوراق
الأثنين 21 ,شعبان 1428   العدد  214
 

تجربةٌ في (الجبس)
فيصل أكرم

 

 

صحيحٌ أنني أعيشُ وحيداً منذ نعومة أظفاري، وصحيحٌ أن الوحدة كانت سبباً مهمّاً دفع بتجربتي الشعرية إلى خطوطٍ عريضةٍ من الإخلاص تحفر عميقاً حيثما امتدت بي التجربة.. وصحيحٌ أنني - كغيري، وإن اختلفت الظروف- كنتُ أشعر في الفترة الأخيرة أن الوقت لم يعد يتسع لشيء من التأمّل في القضايا والأحداث التي تتسابق في زماننا، حتى أيقن معظم الناس أن زماننا قد تحقق فيه قولُ رسولنا الكريم: (لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة) رواه الإمام أحمد بسند صحيح.

غير أن الأيام القليلة التي أعيشها الآن قلبت كلّ شيء رأساً على عقب، في حياتي الشخصية - المتفرّعة من تجربتي الشعرية - فأصبحتُ أرى الصبحَ طويلاً حدّ الضجر، وأمسيتُ أشهدُ أنّ المساءَ يطولُ حتى في قصارى الصيف..

ذلك لأنني منذ فترة - تحديداً قبل أسبوعين من كتابة هذا المقال - تعرّضتُ لحادثةٍ صغيرةٍ نتج عنها كسرٌ في قدمي اليسرى التي تقبع الآن داخل قالب من (الجبس).. ويا الله ما أقسى هذا الجبس وما أبرده، فقد حوّلني كلّي إلى قالب جبس.

لم يعد اليوم (كاحتراق السعفة) في زمني أبداً، بل إن المشوار من حيث أركن مستلقياً إلى حيث برّادة الماء لأشرب صار وكأنه يكفي لاحتراق خمسين سعفةٍ بعدد الخطوات التي أجرجرها متأبطاً عكازي المعدنيّ القاسي هو الآخر كقساوة الجبس..

أسبوعان مرّا ثقيلين، وأثقل منهما خمسة الأسابيع التي أتحرّى مرورها وأنا مكبّلٌ داخل بيتٍ كنتُ أحسبه صغيراً قبل أن يرمي بي الجبسُ في إحدى زواياه القصية..

طبعاً في حالةٍ كحالتي، مجرّد إنسانٍٍ وحيدٍ مكسور القدم، يرتمي بلا حراكٍ طيلة يومه..

فإن أراد أن يتحرّك - ولو إلى المكتبة لتصفّح كتاب - سيكون الجبسُ قيداً رادعاً لا يكسره إلاّ الظمأ أو الجوع حين تدق أجراس الخطر مصحوبةً بالرعشة العظمى..

أقولُ: في حالةٍ كحالتي، بالطبع سيلجأ من كان مثلي إلى ملاذٍ لا يوفره إلا (العمل) ويحاول إنجاز أيّ شيء يكون ثمرة لهذه (الرقدة) التي أعادت الثواني إلى مكانتها المعتبرة الثقيلة في مهمات الوقت البطيء البطيء..

وحين يكون العملُ (شعراً) فسوف يبدو الحظ حليفاً لهذا الكائن المكسور.. ف(يقرر) أنه سوف يكتبُ، وأوّل ما يخطر بباله إشفاقه على حاله من هذا (الجبس) فيكون (قراره) أن يكتب قصيدة من وحي هذا القالب المستبد!

هنا، وبكلّ استحضار للتجربة، بدأتُ أكتبُ عنواناً عريضاً لقصيدةٍ حسبتها تتكوّن: (تجربة في الجبس) وبدأتُ أكتبُ شعراً كان استهلاله بهذين البيتين:

(بعيدٌ عن الآخرينَ الحضورُ وأقربُ من دمعتيكَ الغيابْ

فلا تنتظرْ أن تخونَ السطورُ وعوداً تلقيتها من كتابْ).

ثم، توقفتُ أنظرُ: أين (الجبس) في هذين البيتين؟ وأين ما يوحي إلى ما كنتُ أنوي (قراراً) الكتابة عنه؟!

هنا تذكّرتُ كلاماً قلته سابقا،ً جواباً عن سؤالٍ في حوار صحافيّ قديم:

(أصبحتُ أرى أن على الشاعر، إذا أراد أن يكتب قصيدة، أن يتأكّد أوّلاً من أمرٍ واحد: أنّ قصيدته موجودة لكنها لم تكتب بعد، موجودة في حياته، عاشها، بسبب وجودها كانت حياته وبسبب وجوده ستكون القصيدة).

وأزيد عليه الآن بالقول: قد تأتي التجاربُ في الحياة على مراحل، لكنّ (التجربة الشعرية) لا تكون إلاّ واحدة تمتدّ كلما تعددت التجاربُ في الحياة.. ولا يمكن - بل يستحيل - على التجربة الشعرية أن تتجزأ.. بحيث يكتبُ الشاعرُ عن (العسل) إن كان غارقاً فيه، أو عن (الجبس) إن كان يكبّل إحدى قدميه!

ffnff69@hotmail.com - الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة