Culture Magazine Monday  03/09/2007 G Issue 214
فضاءات
الأثنين 21 ,شعبان 1428   العدد  214
 

الاستيراد النقدي وافتقاد النمط الافتراضي
دراسة في بواكير النقد الأدبي السعودي «5»

 

 

واتخذ الهجوم على الرموز في الحجاز شكل المعارك النقدية التي قد تصل إلى حد الصراع. في مقالات عديد يتبادل حسين سرحان النقد مع أدباء كثيرين بلهجة حادة مثلما حدث بينه وبين أحمد عبدالغفور عطار. وكثيراً ما يتحول النقد إلى خصومات شخصية بين كاتبين، مثل خصومات العواد مع حمزة شحاتة التي أتت على شكل الهجاء المقذع حيناً والساخر أحياناً، وقد نال كل من خصمه بما لا يقره العرف العام وما يعاقب عليه قانون الشريعة، كما شهد عبدالله عبدالجبار في تياراته (231). وحين يشدّد العواد انتقاده للأنصاري، ويتجاوز النقد إلى أمور شخصية، يرد الأنصاري بأن (ادعاء العقاد أنه ناقد فنّي ما هو إلا مهزلة). ويتضح النزوع إلى التحطيم في النقد الذي يهدف إلى تبيان الأخطاء وإظهار المساوئ، من مثل ما ورد في مرصاد الفلالي الذي نصّب نفسه رقيباً يرصد الهفوات (حتى تنتفي الحثالة ويبقى ما بقي من آثارنا صافياً جميلاً لا كدر فيه ولا غثاثة)؛ ما أدى إلى ظهور (مرصاد المرصاد) و(الرد على المرصاد) في متواليات من تبادل الاتهامات والتنقيب عن المثالب. ولا زال الأدباء (يثيرون على صفحات الجرائد نقاشاً بيزنطياً شخصياً حامياً يسمونه نقاشاً أدبياً، وهو بعيد كل البُعد عن الأدب، ويمضي على طريقة الهوشات القديمة والقشاع أو ما يسمى في مصر التحطيب). وقد أنتج هذا الانخراط في المعارك النقدية مقالات تضيع فيها موضوعية النقد التطبيقي مع الانفعالات الانطباعية الممزوجة بالسخرية الحادة. يقول عبدالغفور عطار: (أما النقد الأدبي فهو موجود ولكنه خليط بالمهاترة، ولو تجرد منها ومن الهوى لقدم نقادنا للعربية زاداً فكرياً دسماً خالياً من الأردان..).

كانت هذه المهاترات والمنازعات تقوم بتحطيم النماذج التي ينتجها الأدب المحلي بحجة إصلاحها وتنقية الأدب من شوائبها، وهي تهدمها بلا هوادة وكأن النتاج الأدبي لا يفي بالغرض المنشود، وكأن النقاد كانوا يبحثون عن أنماط تتمثل المعرفة النقدية التي جاءت من الخارج مبنية على نماذجها، بمعنى أن كوليردج ووردزورث، وهما شاعران بالدرجة الأولى، حين قدما الفكر الرومانسي الجديد في 1798، كان ذلك في مقدمة كتاب القصائد الغنائية (Lyrical Ballads) التي حركت ذلك الفكر وليس العكس. الشعراء الرومانسيون خاضوا التجربة الرومانسية وفرّوا من المدينة إلى الريف وعاشوا في أحضان الطبيعة بجانب البحيرات واختلطوا بالبسطاء، ثم كتبوا قصائدهم في تلك الأجواء، وبعدها فسروا للعالم النظرية التي نتجت عن التجربة. ثم إن ما جاءت به الرومانسية من مفاهيم مثالية من مثل الإيمان بالحرية الفردية والتصدي للسلطة والتعاطف مع المهمشين والمقهورين، فتلك إفرازات الثورات التحريرية في أمريكا وفي فرنسا.

أما عند العرب ومن ثم السعوديين فقد وجد هذا التيار الرومانسي طريقه سهلاً في النفوس لأن حياة القلق التي كانت تسود الوضع السياسي للعالم العربي آنذاك نتيجة للاحتلال وما تلاه من استبداد كانت مهيأة لاستقبال هذا النوع من الأدب والاهتداء بتعاليمه. وجد النقاد العرب في بدايات القرن العشرين في الآداب الرومانسية ما يشبه ظروفهم وما يتسق وأهوائهم وهمومهم. لكن الرومانسية لم تعط النقاد سؤلهم؛ لأنهم لم يأخذوا منها إلا ما تماشى مع ظروف حياتهم، فما كان من الممكن تحقيق أهداف تلك المدرسة كاملة وقد أعيد تشكيلها، فلا هروب إلى غابات من مدن لم يكتمل نموها، ولا استخدام للحديث العادي للبسطاء في الريف الساذج بدلاً من الفصحى في الشعر، ولا بوح ذاتيا يفضح مكنونات النفس بشكل صريح، ولا مسكرات ومخدرات تجمح بالخيال إلى عوالم الفانتازيا، ولا تعبد للطبيعة الخلاقة، ولا التزام بالشعر الحر حتى من شعراء الشعر الحر أنفسهم الذين اختاروا المجاورة بين القديم والمستحدث. فشعر العقاد مثلاً كان متصلاً (اتصالاً عضوياً بالقديم من شعرنا العربي من حيث الشكل)، والعواد بدوره كان ينظم الشعر الحر إلى جانب الشعر العمودي ويتنقل بين الشكلين وإن هاجم الشعر العمودي، وعليه فإن موقفه، على المستوى النظري، (يوهم بغير موقفه على المستوى التطبيقي). والأبعد من ذلك أن رواد حركة الشعر الحر واجهوا مسؤولية ازدياد الحماس للشعر المرسل القافية والروي، فعمت الفوضى الساحة الشعرية؛ ما اضطر العواد مثلاً إلى أن يوضح أن استسهال الشكل الشعري الجديد لا يخلق شعراً: (فأما الشكل فلعلهم توهموا أنه هو المراد من الشعر الحر، وأما الفوضى فلعلهم زعموا أنها عملية تهريج يستطيعون أن يضللوا بها من لا يدركون الفرق بين الشعر الغوغائي والشعر السليم). وما تصدي العواد لهذه الممارسات الشعرية المنفلتة إلا لإحساس مشترك مع دعاة التجديد الشعري بأنهم (قد صاروا - إلى حد كبير - مسؤولين عن حال الفوضى التي استغلها الأدعياء، وهم يعيشون في الساحة على حطام وأطلال).

ورغم أن العرب تبنوا الكثير من الأفكار الرومانسية، إلا أنهم تخلوا عن كثير من مواقفها حتى تميزت رومانسيتهم باتجاه فكري خاص دفع الدكتور عبدالقادر القط إلى أن يسميه ب(الاتجاه الوجداني)، وهو اتجاه توفيقي يتخذ مواقف بينية. ولو بحثنا عن تطبيقات شعرية لهذا الاتجاه لوجدنا أن تجسيده في واقع شعري كان ضعيفاً خاصة أن جماعة الديوان كانت تنوي أن تصدر كتابها في أجزاء عشرة، لكن اهتمامها في الجزءين اللذين تم إصدارهما كان منصباً على إزالة الأنماط المتوارثة، ولم تقدم فيهما مشروعاً بنائياً يحل محلها. لقد طورت حركة الديوان النقد (أكثر مما طورت الشعر، وليس في إنتاجها الشعري ما يختلف عن النموذج الشعري الموروث غير تغييرات طفيفة في الموضوعات ومحاولات لم تكتمل في إبداع النموذج الرومانسي). ويرى بكري شيخ أمين أن مدرسة الديوان كانت دعوة تخطيط نقدية شغلها هدم كل قديم بالٍ (دون أن يكون لدى أصحابها النموذج الكامل من نتاجها لهذا الذي تريد)، بل هم عجزوا (عن تقديم النموذج الكامل المطابق لآرائهم النقدية). لم يبن الرومانسيون العرب إذاً نمطاً جديداً على أنقاض النموذج الشعري العربي الأصيل الذي حطموا قداسته في النفوس، فحين حطم رواد التجديد الشعري أرفع نماذج الشعر داعين إلى الانعتاق من الأنموذج التقليدي الذي استمر طيلة مسيرة الأدب العربي، كانوا يأملون في ابتكار بديله النوعي الذي افترضوا أنه سيحتذي تقعيدات النقد الحديث، لكن الدعوة المغامرة للتجديد كانت (أكبر كثيراً من طاقتهم على التجديد ).

غني عن القول أن واقع النقد السعودي الحديث ليس في نهاية المطاف سوى امتداد لواقع الثقافة في الأقطار العربية الأخرى العربية بشكل عام، وهو قد عمل جاهداً ليخرج من أزمة (المنتجع الفسيح) فوقع في أزمة (العقل السليب) الواقع تحت سلطة نقدية جعلت الناقد يؤطر النصوص ويخضعها لمعيار مستعار شكّل عبئاً على المبدعين. وكان من الطبيعي - والأمر كذلك - أن يتلفت الناقد السعودي من حوله باحثاً عن إبداع مناسب ليقتات عليه النقد المؤصل نظرياً، فيكتشف أن الأنماط المفترضة لا تتسق مع النماذج المطروحة، فيتصور عجزها عن (إمداده بمادة عمله الأولية)، ويظن أنها لا ترقى إلى مستويات النظريات النقدية المستوردة، بينما هي في حقيقة الأمر تستعصي على التطبيق نظراً إلى الاعتماد على جاهزية المعطى النقدي الغر.

............................................................انتهت

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة