Culture Magazine Monday  03/09/2007 G Issue 214
فضاءات
الأثنين 21 ,شعبان 1428   العدد  214
 

مساقات
خرائبُ اللغة!
د.عبدالله بن أحمد الفَيفي

 

 

-1-

عودًا على بدءٍ أشرنا فيه إلى شعورٍ عامّ في الوسط الشعريّ العاميّ بافتقار العاميّة إلى ثراء العربيّة الفُصحى.. يمكن القول: إنّ ذلك يمثّل لدى القائلين به، من أعلام العاميّة، تحوّلاً في المفاهيم، يعاكس ما يتوهّمه بعضٌ، على طريقة كنز الفقراء، حين يردّدون تسلّيًا: (القناعة كنزٌ لا يَفْنَى!) وفي هذا الصدد يحضرني ما أدلى به (تودوروف) في سياقٍ شبيه، وقد سُئل هذا السؤال:

س?- (على الرُّغم من أن اللغة الفرنسيّة ليست لغتك الأُمّ إلا أنّك تُقرّ أنّها لغة الثقافة، ولأجل أن تنتعش هذه الثقافة (ينبغي أن نَقْبَل بأن تتغير).. فهل ترى أن كتابة الشباب الفرنسيّ من أصولٍ مهاجرةٍ تندرج في هذا الصدد؟)

ج?- (لا، أقول: إنّ اللغة الفرنسيّة هي لغة الثقافة؛ لأنّ كلّ اللغات صالحة لتكون لغة ثقافة. هذا أوّلاً. أمّا ثانيًا، فمن البدهيّ أنّ اللغات تتغيّر، وإلاّ تحوّلت إلى لُغاتٍ ميّتة، والدليل على ذلك أنّنا لا نتكلّم الآن مثلما كُنّا نتكلّم في القرن السابع عشر. وكثيرٌ من كُتّاب بدايات القرن اهتمّوا بظاهرة التحوّلات التي تخضع لها اللغة، كما حاولوا التقاط اللغة المنطوقة المختلفة عن اللغة الكلاسيكيّة المكتوبة: بوريس فيون، سيلين، كونو، رومان غاري. التحوّلات تبدو أحيانًا وكأنّها عنيفة، لكنّها تَبْقَى ضروريّة، ومُثْرِيَة، ويجب أنْ نَقْبَلها. لكنّي- مع ذلك - لا أعتقد أنّ لغة الشارع تُعَدّ خطوة كُبرَى في إثراء اللغة الكلاسيكيّة، أو لُغة شباب الضواحي الباريسيّة، مثلاً: أولئك الذين يعانون من الإقصاء ومن الفشل المدرسيّ، ويُتقنون مفردات محدودة من 500 كلمة لا أكثر، وأجد الأمر فظيعًا. الإنسان حين لا يكون في متناوله سِجِلٌّ لفظيٌّ ثريٌّ بما فيه الكفاية، يعوّضه بالعُنف. فنحن حين نعجز عن التعبير يُمكن أن نلجأ إلى اللكمات... ولذلك أنا مع اللغة في ثرائها المتواصل وليس في تفقيرها.) (المنتدى الثقافي، صحيفة (الشرق الأوسط)، ع 10389، الأربعاء 9/ 5/ 2007، ص4).

نعم، إنّ كل لغة بوسعها أن تكون لغة ثقافة وأدب، فليست تلك هي القضيّة، بل القضيّة ما تلك الثقافة؟ وما ذاك الأدب؟ وما آثار ذلك على هُويّة الأمّة، ووحدتها، ولُغتها الجامعة؟ والتحوّلات التي يتحدّث عنها تودوروف في اللغة الفرنسيّة لا تُقارن- بطبيعة الحال- بذلك الشرخ الموغل في تعمّقه بين فُصحى العربيّة وعاميّاتها، ومع ذلك فهو يتحفّظ على دعوَى إثراء العاميّة للّغة القوميّة الفرنسيّة الكلاسيكيّة.

على أن تلك المعادلة المتمثّلة في: (إثراء اللغة المتواصل لا تفقيرها) هي ما نحتاجه في العربيّة وأراه ضروريًّا وأدعو إليه، أي: إمداد الفُصحى بما يَصْلُح من العاميّة، لينضمّ إلى نسغها الأصيل، معجمًا وتعبيرًا، بحيث تظلّ وحدة النخلة العربيّة متواصلة التنامي، لا تيبس، ولا تنحرف إلى أثلةٍ ضئيلة هجينة. وذلك مشروع عظيم، قارَبَهُ قِلَّةٌ من الشعراء عبر التاريخ. أمّا المتقوقعون، أو مستسهلو السَّلْوَى الشخصيّة بالشعر، فلا شأن لهم بوظيفة الأدب اللغويّة.

-2-

على أن الخصائص الشعريّة ليست كامنة في البلاغة وحدها دون النحو، كما ألمحَ الشاعر العاميّ فهد عافت، حسب مقابلة معه في (جريدة (الحياة)،ع 16045)، سبقت إشارتنا إليها في مساق ماضٍ، إذ قال: (تظل الأهمية الشعريّة في البلاغة لا النحو، فمن يملك البلاغة قادر على استخدامها). بل إن البنية البلاغيّة لا تنفصل عن البنية النحويّة في أي لغة، إلاّ إنْ قَصُر النظرُ عن وظيفة النحو، فخُيّل إلينا أنّ النحو مجرد رفعٍ ونصبٍ وجرّ، بشكلٍ عبثيّ، لا قيمة له ولا معنى، ولا يُقدّم على المستوى الدلاليّ، والإيقاعيّ، والذهنيّ، ولا يُؤخّر. و(عبدالقاهر الجرجاني، - 471 أو 474هـ = 1078 أو 1081م) (1)- حسب نظريته في النَّظْم - يُرجع عمليّة النَّظْمَ إلى عِلْم النحو، حينما يقول: (اعلم أنْ ليس النَّظْم إلا أنْ تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه عِلْم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نُهجتْ، فلا تزيع عنها، وتحفظ الرسوم التي رُسمت لك، فلا تُخِلّ بشيءٍ منها.) ومن ثَمَّ فلقد أرجع عبدالقاهر مفهوم الأَثَر (The Trace) الجماليّ الانفعاليّ - الذي هو أساس وجود النص، والناشئ عن الاختلاف - وما يولّده من ردّة في نفس المتلقّي ومخيّلته، إلى توخّي تلك المعاني النحويّة العربيّة، وإلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تحدث فيها، والتي لا نهاية لتوالدها. وهو ما يتّفق معه فيه (جاك دريدا) فيما يسميه (عِلْم النحويّة) Grammatology، الذي يحلّ في القراءة لديه محلّ السِّيْمَوِيَّة السُّوسِيْرِيّة، التي تبدو تناقض نفسها: بين قولها باعتباطيّة الإشارة اللغويّة من جهة وتمييزها الإشارة الصوتيّة (اللغة الطبيعيّة) على الإشارة الكتابيّة (اللغة الصناعيّة) من جهة أخرى؛ وما ذلك إلا لأنها سليلة تاريخٍ من خطاب التمركز الصوتيّ المنطقيّ، الذي يربط دائمًا بين (الحقيقة/ المعنى) و(الصوت/ المؤلِّف). ولي في هذا بحث قُدّم إلى مؤتمر جَرَش للنقد الأدبي، جامعة جَرَش، الأردن، 2000م، ثم نُشر في (مجلة (جذور)، عدد 4، مجلد 2، ?سبتمبر 2000، النادي الأدبي الثقافي بجدة)، بعنوان (الإشارة - البنية - الأثر (قراءة في (دلائل الإعجاز) في ضوء النقد الحديث))، فيه تفصيل لا مجال له ها هنا.ثُم لنسأل: هل الهمّ الشعريّ وحده هو الغاية القصوى التي تحدو شعراء العاميّة، أم أن الشاعر (المنتمي) إلى أُمّته، في عمقها وسموّها، يتطلّع إلى ما هو أبعد؟ هل الهمّ يكمن في الشعر دون اللغة، في أبعادها الكلّيّة؟!

ثم هل العاميّة لُغة؟

يبدو هذا السؤال الأخير غريبًا، ومستفزًّا، لكن إجابته جاهزة في الجُعبة، ولا سيما أنْ قد بِتْنا نَسْمَع من يُدِلّ بلغته العربيّة، وهو لا يعني سوى مشوّهته العاميّة!

إن اللغة في مفهومها العامّ تشمل صنوفًا لا نهائيّة من السِّيْمَوِيّات، بما في ذلك لغة الصمّ والبكم، ولغة الإشارات. لكن هذا ليس ما نعنيه بسؤال اللغة. وإنما نسأل عن اللغة في وجودها التاريخيّ، ورصيدها الحضاريّ، وهويّتها الإنسانيّة، التي تميّز أُمّةً وتمنحها اسمها. وعند هذه المحكّات فالعاميّات لهجات، أو (لُغيّات) - كما سمّاها علماؤنا القُدامى - لا لُغات. من حيث هي نتوءات مَرَضيّة ودمامل في جسد اللغة الأصل، نَجَمَت عن ظلاميّة العصور، وفُرقة المجتمع اللغويّ، وعُزلة أطرافه، واغترابها، وجهلها، وتأثّر أبنائها بغيرهم من أبناء اللغات الأخرى، وتسلّط غير العَرَب على العَرَب، ليأتي من الخَلَف من يُحاول تحويل تلك الإفرازات إلى أجساد مستقلّة في أحسن تقويم، بل ليؤسّس لعملقتها، كأنما قد باتت الجسد لا الدمامل! كما يأتي من لا يُفرّق بين فائدة تلك اللهجات في دراسة مرحلة تاريخيّة عابرة غابرة، وفي بحث ظروف بيئيّة معيّنة، أو استقراء تطوّرٍ لغويّ ما، وبين تكريسها لغة منافسة أو بديلة، لها شِعْرها، ونثرها، وإعلامها، وأعلامها، ومحافلها، وأكاديمياتها، وأكاديميّوها، ومهاجروها وأنصارها. فتراه يحتجّ بأن العاميّة ثروة، ويا لويله ممّن ينتقص الثروة أو يُشكّك في مصادرها! ومفهوم (الثروة) ها هنا لا يعدو كونها ماضيًا، متشعّبًا، فوضويًّا، ورُكامًا من خرائب لغةٍ ورثناها، وعلينا حملها على ظهورنا وظهور الإبل مهما كلّف المسير! مع أن منطق الحضارة، إن كان في العاميّات من ثروة، أن يُجعل موقعها في متحف التاريخ والآثار، مادةً للدارسين، فقيمتها في ما عدا البحث التاريخيّ أو اللغويّ المتخصّص لا تُذكر. وهل رأينا مهتمًّا بالآثار والمأثورات يرى أن نلبس مقتنيات الماضي الرثّة من الثياب بدل ثيابنا، ونسكن في خرائبه بدل مساكننا، بحُجّة أنها تراثٌ ثمين؟ ذلك ما يراه بعض أنصار العاميّات، ومهما تطوّر بنا الزمان، وتغيّر المجتمع، وانتقل الإنسان من بيئاته الأولى التي فرضتْ اللهجات والعادات فرضًا لا خيار للناس فيه، وكأنّ ما تمخّضت عنه عصور الانحطاط الثقافيّ قَدَرٌ مقدور، لا فكاك لنا منه، ما دام فينا من يستحييه، ويزيّنه، ويدعمه، ويفرضه على الأجيال.

( للحديث بقيّة).

(1) (1984م)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلّق عليه: أبو فهر محمود محمد شاكر (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 81.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

aalfaify@yahoo.com - الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة