الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 03th October,2005 العدد : 125

الأثنين 29 ,شعبان 1426

مفكرة
كزهر اللوز فعلاً
ماجد الحجيلان

ليس في تصريح محمود درويش الذي يرى فيه المتنبي أكثر حداثة (منكم أيُّه الشعراء) أي مفارقة لافتة، ولا حتى فيما وصف بأنه حملة شعواء شنت عليه من كاتبي قصيدة النثر الذين (أساءوا) فهمه، لكن الأبرز هنا هو تراجعه كل مرة عن إدانة ما ينشر من قصائد نثرية وانحناؤه أمام أي هجمة أو عصفة يسببها إعلانه هذا. مشكلة معظم النجوم أنهم يرفضون اتخاذ أي موقف واضح من أي شيء لأنهم يطلبون ما لا يكون، وهو رضا الجميع ليحصلوا على الثناء الكامل غير المنقوص من الجميع وفي كل وقت، صيغة النجم في هذه الذهنية هي (البيرفكت) الذي لا يرده أو يصدر عنه باطل.
كان إعلان درويش في مؤتمره الصحافي في تونس في لحظة صدق ومباشرة لها سوابق، عن تبرمه من معاصريه من شعراء شباب وشيوخ مالوا إلى التشبب، يمثل رأيه الحقيقي بوصفه الشاعر العربي الأبرز الذي ينطوي على موهبة حقيقية وفذة، وهو متجدد ومستمر ومتّزن، ولهذا لا يملك الذوق والنقد معه دوماً إلا الولع والتفكر. فدرويش يتابع الدوريات الأدبية وما يصدر من دواوين حديثة فلا يجد فيها ما يمثل بالفعل نبض هذه اللغة وأبنائها بل ما هو خيانة لها ولهم، وتعبيره عن حداثة المتنبي - وإن تنازل عنه - كان أقرب إلى التوفيق والصدق مع النفس، بالحداثة موقف شعري لا تأريخ ولا شكل.. وإذا ما استثنيت المناسبات والمدائح ففي شكوى المتنبي ووصفه وفخره وحكمه السيارة ما لم تنقطع العربية عن التنفس به مهما زيف المتكلفون بل إن في أبيات المتنبي ما ينفتح على التأويل والكلام أكثر من دواوين ومجموعات شعرية تصدر اليوم. وعلى شاعر قصيدة النثر ألا يسائل مئات الألوف الذين يستشهدون بالمتنبي ربما حتى آخر متحدث بها وألا يتهمهم في ذوقهم، بل عليه أن يعيد النظر في قصيدته.
ليست هذه المرة الأولى التي يسحب فيها درويش تصريحاً له بشأن قصيدة النثر التي وصف كتابها بالميليشيات نزار قباني يوماً. وسر تراجع درويش الدائم هذا يكمن في مخافته فقدان شيء من جماهيريته وألقه كحداثي ومتجدد، بالإضافة إلى سلاطة ألسنة الشعراء النثريين الموسومين، وكان بوسعه الاتكاء على ما قاله أبو حيان في توصيفه (أحسن الكلام) بأنه: (ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم)، وهو الشاهد الذي صدر به ديوانه الجديد، لكنه سرعان ما تنازل عنه، وليس الاحتفاء بتنازله أو تراجعه عن اتهام هذا الشعر إلا قشرة رقيقة ستكسو تصريحاته ثم لا تلبث أن تزول ولن يغنيه اتفاق سعدية مفرح مع تصحيحه الأخير وسعادته بتراجعه ولا تعبيره عن إعجابه ببعض الشعراء والقصائد هنا وهناك.
في المقابل كان (أدونيس) رغم إثارته للجدل حول مسمى قصيدة النثر وتحفظه عن التعبير بالنثر هنا، أكثر ثباتاً وتواؤماً مع نفسه في شعاره الدائم (المسألة ليست هل هناك وزن أم لا، بل هل هناك شعر أم لا؟)، فالشعرية عنده لا حد لها وهي منفتحة على الفنون الإنسانية كلها.
يعود درويش في إصداره الجديد (كزهر اللوز أو أبعد) إلى لغته الغزلية الصافية والتي يمزجها باتقان مع تشاؤمه وفلسفته، وقصيدته (في وصف زهر اللوز) رغم قصرها استحقت أن يسمى بها الديوان في فرادتها وجمالها. إن محمود درويش الشاعر هو الثابت المتجدد في هذه المجموعة منذ عودته إلى الحياة في (جدارية) ولولا قصيدة (طباق) الأخيرة المهداة إلى إدوارد سعيد لكان ديوانه الأخير ممثلاً له فعلاً متغزلاً متفلسفاً عذباً رقيقاً درويشياً بامتياز.
كان الشعراء في زمن ماضٍ جميل عرباً وأجانب يخجلون من نشر صورهم، وإذا ما اختاروا نشرها في مجموعة أو كتاب جعلوها في الصفحة الداخلية بالأبيض والأسود وتنافسوا في إظهار عدم التكلف والعفوية بترك الذقن أو إهمال الكاميرا أو الانشغال بقلم أو كأس أو ورقة..، ولا يعرف بالضبط هل هو الفنان حسن إدلبي من دار رياض نجيب الريس الذي ورط درويش بوضع صورته على غلاف المجموعة لأول مرة بهذا الشكل الحالم: (أصابعه على الخد ويرسم نصف ابتسامة ويحدق في اللاشيء) متخلياً بذلك عن نهجه السابق، فدرويش موصوف بالرزانة والسمت المبالغ فيه، وهو ما اشتكى منه شعراء عراقيون مجانين أوسعوه سباً بعد أن تجاهلهم في أمسية أوربية، وهي المجموعة نفسها التي تفترسه بأقلامها وتزايد على مواقفه السياسية فور إعلانه عن موقف ما من الشعر الذي ينشر هذه الأيام، والمشكلة معهم أن تراجعه يرفع سقف المطالب أكثر فأكثر ولا يعيدهم إلى مواقفهم السابقة منه، ولقد كان هجوم درويش كزهر اللوز فعلاً في بياضه ودوامه وكثافته، لكن لوزته نضجت فطارت به الريح.


hujailan@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved