الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 3rd November,2003 العدد : 35

الأثنين 8 ,رمضان 1424

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
إنه.. أبي!!
بقلم/علوي طه الصافي

لأنه أبي
فهو الرجل الأنبل
وهو الأكبر
هو المثل.. والأمثل
هو القدوة.. والأكرم.
هو الطيبة.. والأطيب
هو الأعز.. والأحب
هو الأكبر.. وأنا الأصغر
هو الأشياء الكبرى.. وأنا الأشياء الصغرى
لأني مؤمن.. ولأني مسلم
فالله هو الكمال.. وهو الأكمل
قال الشاعر.. «كل فتاة بأبيها معجبة»..
سامحك الله يا شاعر قد كانت لك بنت تعجب بك
قلت كلاماً أبوياً فيه شعر
والشعر، كلام كالأحلام
هو سراب كالأضغاث..
وأضغاث كالأحلام
اسقطتَ من شعرك فتى هو بأبيه معجب
وهو لأبيه الأجمل والأقرب
وهو لأبيه الأحبب
هو اليوم له.. وغداً أكثر
هو من أجله يشقى يتعب
ولأسقامه يتعذَّب
ولأفراحه يتبختر
من مثلك يا ابن الأب
لو تعرف حبه لك أكثر من نفسه
لا يوجد حب للغير.. أغلى من حب الأب..
* * *
أعذروني إذا بدأت حديثي عن أبي شعراً.. أو شيئاً كالشعر.. كل ما يفتقده الإنسان، أو يخسره يمكن تعويضه إلا فقد الأب.. وخسارتك في الأب.. ومهما قدَّمت له في حياته فأنت الرابح، والأربح.. وكلما تقدمه له في اخرته فهو زيادة على الربح، وعلى الأربح!!
* * *
لم يأت إلى الحياة وفي فمه ملعقة ألماس.. رضع حليب الأم، لا اللبن المستورد.. أكل التمر مع القهوة.. شرب العسل بكثرة.. عسلاً طبيعياً لا مستوردا.. لم يعرف في حياته وجبة الساندوتش.. ولا وجبات علب مستورد!!
عاش حياة طبيعية.. حياة هادئة ساكنة.. حياة لا تعرف الإحن والشحناء.. أو الكذب والرياء.. أو الخصومة والبغضاء.. حياة يملأها الأمن والإيمان.. عاش حياته كأنه سيعيش أبداً.. ويومه كأنه سيموت غداً.
بدأ حياته العملية من «حانوت» صغير.. متواضع في موجوداته.. كانت سلعته الكبرى التي عُرف بها في مدينته الصغيرة هي «الصدق» والتعامل مع زبائنه بكل صدق.. وأسعار لا تقوم على الجشع، والطمع، والربح السريع.. لأن حكمته في حياته كلها ما يأتي بسهولة، وبسرعة.. يذهب، ويتلاشى بسرعة، وسهولة والبقاء عنده للمتوسط، والأوسط.. لم يكن يحلم كثيراً، كان واقعياً لهذا عاش حياته مرتاح النفس.. ينام مبكراً.. ويصحو مع أذان الفجر.. وصياح الديكة «الفجرية».. كان اعتماده على نفسه كبيراً.. لهذا كان يطبخ، ويتناول وجبات طعامه في حانوته الصغير بنفسه.. لأن مواقيت عمله لا تتناسب مع مواقيت طعام الأسرة التي كان يعولها بعد وفاة أبيه وأمه قبل أن يشهد أيام مستقبله.
أمي، كانت صغيرة في السن قبل مرحلة سن الحجاب.. أهلها من جيرانه الأقربين.. حين نما عمله فتح حانوتاً أكبر.. كثُر زبائنه.. زادت موجوداته.. كل اخلاصة يتجسد في إيمانه العميق.. واخلاصه في عمله.. وعيناه العاشقتان المحبتان بعذرية على أمي التي انقطعت عن المجيء لحانوته للتسوق، بعد أن شبَّت عن الطوق، وبلغت سن الرشد.. كانت تجمعه بأسرتها أواصر النسب.. وعلاقات «الجيرة».. تقدم لأهلها طالباً الزواج منها.. كان هناك خيط سري غير مرئي، ربطهما ببعض اسمه «الحنين، والاعجاب» لا ما يسمونه كما هو حال اليوم «الحب» الذي ينشأ في غياب سلطة الأسرة، ورقابتها الشديدتين.. ولأن حب اليوم/ العصر ينشأ نشأة خاطئة مغلفة بالخداع، والخديعة، فإنه لا تقوم عليه علاقة طبيعية تنتهي بالزواج الحلال.. وإذا قامت علاقة زواج، فإنها سرعان ما تنتهي بالطلاق، لأنها لم تكن علاقة انسانية يباركها الله، والشرع، بل كانت مجرد «نزوة» خاضعة لسيطرة «الغريزة الحيوانية».. وكلما ينشأ على خطأ، ينتهي بالخطأ!! وكل علاقة تحكمها الخديعة، والخداع.. لا تتحقق لها «الديمومة».. لقد امتهنت علاقة الحب النبيلة، في عصرنا بحيث تحوَّلت إلى نوع من «الانحراف» وبخاصة إذا كانت «المصالح المادية» تقف خلف هذه العلاقة الأنبل، والأسمى، والأجمل في حياة البشر!!
اجتمع أبي، وأمي بالزواج الذي كلما مرَّت به السنون، كبُر فيه الحب.. وتقوَّت، وتوثقت خلاله عرى الارتباط القائم على التفاهم، والاحترام، ومعرفة كل طرف حقوقه، وواجباته الشرعية ديناً ودنيا.
يحدثني عن أمي التي انتقلت إلى رحمة الله، وأنا في الثانية من عمري ودموعه تسبق حديثه حزناً عليها قائلاً: إنه لم يحدث في أي يوم، أو ليلة خلقت لي مشكلة.. بل كنت أحياناً أخطئ في حقها عن غير قصد، وأمتنع عن الكلام معها.. لكن لا تنام إلا من بعد أن تغسل ما علق بنفسي.. فأقول لها، وأنا في حالة لا أستطيع وصفها لك: يفترض بصفتي المخطئ أن يكون الاعتذار من جانبي.. فترد بكل ود وحنان الدنيا: لا فرق أن تعتذر لي أنت، أو أعتذر لك أنا فكل منا يكمل الآخر، نحن روح، وقلب في جسدين.. وهي صادقة في مشاعرها لأنها لو لم تسبقني بالاعتذار لاعتذرت لها أنا بنفسي.. لكنها كانت تحسسني بأنني الرجل، وأب أبنائها، ورفيق عمرها.. لقد عشت سنيناً طويلة من عمري معها هي أسعد وأغلى مراحل عمري التي لم ولن أنساها ما حييت.. ولا تتصور حجم الحزن الذي سيطر على عقلي، وروحي، وما يزال حتى ألحق بها!!
لا تتصوروا أنني برواية ما قاله أبي لي أمتدحها لأنها أمي، وذلك لأنني لم أعرفها، ولم أر حتى صورة «فوتغرافية» لها، لعدم وجود «كاميرات» وقتها.. وأبي ليس في حاجة، وليس مطالباً بالحديث عنها بهذه الصورة الجميلة.. فهو قد تزوج بعد وفاتها تغمدها الله بواسع رحمته، أربع مرات، كل ما يقوله عنهن إنهن لسن كمثلها، ولهذا كان الطلاق نهايتهن، دون أن يدخل في التفصيلات، لأنه من طبيعته يعد العلاقات الزوجية علاقات مقدسة، يعاب الرجل على افشائها أو الحديث عنها!!
هذه صورة عن حياته العائلية.. أما حياته العملية، فهو كما أسلفت اتجه إلى «التجارة» لإيمانه بأنها تسعة أعشار الرزق.. كما جاء في الحديث الشريف.. فبارك الله له في سعيه، وأصبح من التجار المعروفين.. إلى حد أنه كان يستورد بضاعته من «عدن» على عصر الاستعمار الانجليزي لها.. وكانت بثغرها البحري الدولي «المعلاّ» مركزا لاستيراد السلع من أوروبا، والهند، بواسطة البواخر الكبيرة، حيث تصدر هذه السلع إلى كل مناطق الجزيرة العربية، قبل توسعة ميناء «جدة» ثغر المدينتين المقدستين التاريخي «مكة المكرمة، والمدينة المنورة،» في العهد السعودي الميمون ولأن مسيرة حياته ليس فيها ما يستحق الاشارة، اللهم إلا مزيداً من مشاعر وأحاسيس ابن نحو أبيه.. وهي قاسم مشترك بين الأبناء، وآبائهم.. فقد كان أباً حنوناً، عطوفاً، لم يبخل على أبنائه بشيء مما كان يمتلكه.. واختصر القول عنه بأنه كان عصامياً كوَّن نفسه، وبنى مركزه الاجتماعي دون مساعدة أحد.. مع تمسكه الشديد بعقيدته الإسلامية وتعاليمها، قد يسأل القارئ.. وماذا عن تجارته؟ ورغم خصوصية السؤال إلا أنني لا أرى ما يمنع الحديث عنها. لقد كانت السلع التي يطلبها تأتي على سفن شراعية، قبل معرفة البواخر الكبيرة الحديثة.. ولم تكن توجد شركات تأمين ولو وجدت لرفض التعامل معها، انطلاقاً من إيمانه بقدر الله.
وقد أصيب بالنكسة الأولى حين تعرضت السفينة التي تحمل سلعه، وكلها من المواد الغذائية التي تتلف إذا تعرضت للماء، حين تعرضت للأمواج العاتية، في وسط البحر، بحيث غطت مياهها ليس سلعه فحسب، بل سلع غيره فخسرها، وكانت قيمتها تشكِّل نصف ثروته، فاستسلم لقدر الله وقضائه، وصلَّى ركعتين لله سبحانه و تعالى احتساباً، وامتثالاً.. وحين جمع بقية ما يمتلكه حدث ما حدث للسفينة الأولى، فعادت حياته كما بدأت إلى الصفر في الوقت الذي بلغ من العمر سناً لا تساعده على البداية من الصفر، وخوض تجربة تجارة تحتاج إلى دماء الشباب، وجهد الشباب.. اضافة إلى أن ظروف المعاملات، والعلاقات التجارية، وماهيتها، وطرق أساليبها قد تغيرت.. ومع كبر سنه أصيب بمرض «الربو» مما يتطلب إلى عناية صحيحة خاصة، فأقنعناه بالخلود إلى الراحة بعد أن أصبحنا نحن أولاده جميعاً موظفين وغير متزوجين ولنا دخولنا الطيبة.. فنقلناه من مدينة «جيزان» إلى مدينة «جدة» لتوفر العناية الصحية من خلال اشراف طبيب خاص.
وكان متفهماً لكل ما يحيط به فوافق عن قناعة، واقتناع متفرغاً لعبادة الخالق.. وكان محل عناية ورعاية واهتمام أخي الذي يصغرني «أحمد».. وبالنسبة لي فقد كانت التزاماتي العملية، والصحافية، والأدبية لا تسمح لي بالانتقال إلى «جدة» فبقيت في «الرياض» وأقضي اجازتي في جدة بجواره.
وفي أحد الأيام من عام 1392هـ كما أذكر.. كنت يومها خارجاً من المستشفى بعد اجراء عملية استئصال اللوزتين ورن جرس هاتف شقتي قبل أن أخلع ملابسي الخارجية وحين رفعت السماعة إذا بأحد الأصدقاء لا ينقل لي خبراً، وإنما أنزل عليَّ صاعقة زلزلت كياني.. وارتعدت لها مفاصلي، فشعرت بدوار عنيف يلف رأسي.. لقد انتقل أبي إلى رحمه الله، فانتقلت معه روح الشباب المرحة.. وافترش الحزن نفسي، وطريقي في الحياة كما يقول شاعر.. وبعد أن افتقدت أبي لم يعد يهمني، ولا يقلقني ما أفقده في حياتي، كبر، أم صغر.. وقد حضرت دفنه في مقبرة «الأسد» بجدة داعياً الله أن يتغمده بواسع مغفرته، وينزل عليه شآبيب رحمته، يجعل قبره روضة من رياض الجنة.. ومثل ذلك لأمي التي رحلت إلى الأبد، قبل أن أعرف الرحيل الأبدي ... وهذا الدعاء بعض من أبعاض أسعى للقيام بها في السر والعلن.. سائلاً الله مرة أخرى أن يكونا راضيين عني، وعن جميع إخواني، وأخواتي..
كان في حياته كأي أب يحلم أن يرى أبناءه على مستوى رفيع من العلم.. وأن يكونوا في مجتمعهم نجوماً متلألئة بالنور.. وعلامات لها دورها الفاعل المؤثر في مفاصل هذا المجتمع فهو رغم تواضع تعليمه، وسعة رزقه، وكبر حجم تجارته.. لم يدر بخلده أن يُعرف أبناؤه من خلال مواقعهم المالية، وكبر أحجام تجارتهم.. لأنه بحكم التجربة التي مرَّ بها في حياته أدرك أن المال مصيره الزوال.. والتجارة لا تدوم.. إذن ما البديل؟
البديل عنده في «العلم والتعليم».. وكان يردد دائماً حكمة خالدة تقول «المال تحرسه والعلم يحرسك».. كأنه يريد أن يقول من خلال هذه الحكمة ان العلم يخلد بخلود صاحبه.. بل يذهب به معه إلى القبر.. العلم لا تخشى عليه من السطو، والحيلة، والاحتيال.. ولا يتعرض إلى «الرشوة، والارتشاء».. أو التعامل بالربا!! العلم يجعل الآخرين يتعاملون معك لذاتك، لا لمالك.. والعلم نسب من لا نسب له.. والإنسان بعلمه لا بماله، ووجاهته المادية.
إن في العالم ملايين الأغنياء، وأصحاب الثروات الطائلة غير سعداء في حياتهم وبعضهم لا يعرف النوم إلا بواسطة «الحبوب المهدئة»، لأن عقولهم مزحومة بالأرقام.. مسكونة بالصفقات التجارية.. وهم في حالة سفر دائم من بلد إلى آخر، محرومين من متعة العيش مع أسرهم، وأطفالهم الذين يحسون باليتم بسبب الغياب المستمر.
إنها حكمة بالغة الأثر، والتأثير.. ولها دلالاتها، وأبعادها في حياتي.. وأحرص على غرسها في أذهان أبنائي بالقول، والعمل.. فالعلم «خزانة» مغلقة مفتاحها الأوحد «القراءة... والقراءة.. والقراءة.. دون كلل أو ملل»...


ص ب «7967» الرياض «11472»

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved