الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 3rd November,2003 العدد : 35

الأثنين 8 ,رمضان 1424

استراحة داخل صومعة الفكر
نشيد الحبيب
مانع سعيد العتيبة
سعد البواردي

الجاه، والمال، والشعر ثلاثية من الندرة توافرها لدى شخص واحد.. وشاعرنا القدير أخذ من ناحيته الجاه الكثير.. وتملك من ناحيته المال أكثر.. فهل أن الجاه والمال وحدهما هما الجناحان اللذان حلقا بشعره.. أم أن مشاعره دونهما هي التي أعطت لشعره شحنة الانطلاق والتحليق في فضاءات الخيال والجمال والسحر..
شعراء قبله كان لهم الجاه.. وربما المال خلدتهم أشعارهم مع الاحتفاظ بالألقاب أمثال «شوقي» «نزار قباني» «سيف الدولة» «عبدالله الفيصل» «خالد الفيصل» و«غازي القصيبي» وآخرون أمكن لهم الجمع بين الجاه والتوجه الفكري الشعري منتزعين من معاناة غيرهم.. ومن الصور الجمالية من حولهم لوحات بانورامية تشد القارئ إليها..
«نشيد الحبيب» عنوان ديوان شاعرنا.. ماذا عن عناوينه ومضامينه؟!
بداية أطل علينا بحبيبه المشرود وقد أسرف في تعذيب حبيبه مخلفا كل وعوده. مشرعا أسلحة حدوده في حرب عاطفية لا ترحم.. المفاجأة أن شاعرنا لم يقاوم رغم أنه يملك قدرة المقاومة والمنازلة أو المهادنة على الأقل إلى حين:
«أنا راض بالقيود
كن ظلوماً مجحفا»
القيد يا عزيزي لا يتفق والصمود:
«لن ترى إلى صمودي
لست من قال كفى.!
انما أحفظ عهودي
لا تبالغ بالجفا»
ملاحظتان، الأولى مفردة «احفظ» تخل بالوزن.. حبذا لو استبدلها بكلمة «ابقي» هذه واحدة.. أما الثانية كي يطلب المزيد من الجفوة رغم اجهاده ولا أقول جهوده التي سالت معه دموعه وأبت أن تجف أو تخف.. ومن النشيد إلى الطباع يرسم شاعرنا انطباعه هذه المرة..:
«لا لطيفاً في الطباع
رد لي أرجوك قلبي
رحمة قبل الضياع
يا كريم النفس لبي»
لماذا هذا التغزل المسكون بالاستجداء؟ لأن محبوبته شعاع في الليل ينير مسالك دربه.. وشراع في البحر يقيه مخاطر لجه.. إنه يناشدها في لهفه:
«أي خير في امتناع
عن وصال مستحب
ما لهجري أي داع
فأزل همي بقرب»
إشكالية الشعراء في شعرهم أنهم الجانب الأضعف في الحب.. يناشدون ويستجدون، ويستنجدون تماما كما نحن عليه الحال في أمور تطال مستقبلنا أو مصيرنا.. ولن يصغي لنا أحد ونحن نأخذ جانب الضعف في علاقاتنا الوجدانية والسياسية.. إن أصدق ما يمكن الأخذ به أن نكون أقوياء أمام الحبيب أو الغريب كي يحترمنا ويخطب حبنا ويتودد إلينا دون جفوة.. أو إذلال.. ألست معي يا صديقي..؟
«أشباه الحب» محطته الثالثة التي توقفنا سوياً أمامها وأخذنا بطاقة الدخول داخل ردهاتها:
«يا ظباء البيد أعياني النداء
هل رأيتن غزالي يا ظباء
انني في فجر يومي أقتفي
أي آثار له حتى المساء
فإذا حل ظلام دامس
يتجلى طيفه مثل الضياء»
جميلة ورائعة تلك المخاطبة في صياغتها وحبكتها الفنية.. فقط وددت لو وضع علامة استفهام «؟» بعد قفلة الشطر الثاني من بداية قصيدته.. ويمضي في توصيفه وتوظيفه للكلمات بقدرة الشاعر وتمكنه:
«إن يلن قلبي فقد طاب له
في رحاب الحسن إعلان الولاء
يا ضباء المجيد ما كنت أرى
لحبيبي من شبيه بالبهاء»
ولو أنه استبدل باء البهاء بكلمة في لكانت أنسب.. هكذا أتصور.. ما علينا فقد أمطر حبيبته بما تستحق من وفاء كيف لا وهي فينوس خياله وكليبوترا آماله بعينيها السوداوين.. وبقلبها الشبيه بالنبع.. ومع هذا الغزل الجميل يعود إلى نقطة الهزيمة مرة ثانية:
«كيف لا آتي لها مستسلما
طالباً منها ملاذاً واحتماء»
لعله أدرى مني بموقف اختاره لنفسه استكثرته عليه.. إنه حر في اختياره.. وخياره.. هل أن شاعرنا العتيبة مل السؤال دون جواب.. استقصى عليه حل العناد واحتاج إلى رسول يحمل لحبيبته أوجاعه وهمومه؟ هذا ما سنتعرف عليه في تجاويف مقطوعة «رسول الحبيب»:
«يا رسول المغرمينا
قد بكينا مرغمينا
فاكتم الأخبار عنها
لا تكن دوما أمينا
قل لها اني بخير
لست والله حزينا»
حسنا فعلت.. إن تظاهرك بعدم الاهتمام منها يقربها إليك أكثر وأكثر دون تعب هكذا تقول تجارب العشاق.. الصدود أحياناً يذكي نار الشوق ويعجل باللقيا..
يتساءل الشاعر مع رسول حبه كي يروي له أحوال حبيبته.. هل تذكر شيئاً من شعره المليء بالشوق والحنين؟
إلا أن الرسول يلزم الصمت ويدع للشاعر وحده طرح التساؤلات بعد معاناة أغلق معها باب التلاقي.. لا حب دون عقد.. المهم أن لا تكون العُقد إحدى شروطه.. لننتظر:
«عقد يطوق جيدها ويليق
فيشع سحر منهما. وبريق»
سحر الجيد، وبريق العقد وصف جمالي أخاذ استهل به مقطوعته «عقد الحبيب» ولأنه المتيم المبتلى بحبها «والمحبة بلية» كما يقول الشاعر فإنه أشبه بالطير الذي يحلق في ربوعها وربيعها مغردا: إن أحلامه التي يسترجعها في سباته أحب إليه من صحوة يتيمة لا ترسم لها صورة في خياله:
«يا عالم الأطياف لست حقيقة
لكن مثلي بالخيال حقيق
عز اللقاء ودربنا ضاقت بنا
ما نفع درب باللقاء تضيق»
الشطران الأخيران يحوجها التصحيح.. الدرب مفرد. وضاقت للجمع.. والدرب مذكر، وتضيق مؤنث.. ليكن يا شاعرنا المجيد على النحو التالي إذا ما رغبت.
«عز اللقا ودروبنا ضاقت بنا
ما نفع درب باللقاء يضيق»
مسيرة الحبيب متواصلة وشاقة وموصولة الأشواق:
«ماذا أقول لأحباب لنا جاروا
هل أشتكي ظلمهم، أم ذاك تكرار»
سؤال طرحه على ذلك.. الجواب بسيط.. الجور في الحب كالجور في السياسة إرهاب لا يحتمل المهادنة حتى ولو كان من عاشق يصطلي قلبه بنار العشق.. الحب الذليل لا يصنع محبة.
«فأي ذنب جنينا في محبتهم
ليستبدوا بنا، هل بيننا ثأر»
يا شاعرنا.. إنما العاجز من لا يستبد.. ربما حواء استوحت استبدادها من استبداد الرجل انتقاما منه وليس أسهل ولا أفضل من أن تنتصر عليه في معركة الحب.. هتلر الذي أخاف العالم بجبروته ركع أمام معشوقته إيفا براون يقبل قدميها كخادم ذليل.. إنها القسوة المتجذرة في أعماق البشر.. شاعرنا الدكتور العتيبة من ان يخلص من شكوى حتى ينزع برغبته إلى شكوى.. قاسمها المشترك الأعظم المرأة القاسية.. فعبر محطاته التي قطعناها تبدو الصور متشابهة.. والأحزان متشابكة.. والعناوين متماثلة كلها تستصرخ.. وتستنفر ما تبقى لديها من حبال الصبر دون صبر وحتى لا نخسر أفضل ما لديه من إبداع شعري مختلف لسوف نتجاوز بعضا من قصائده..
«قسوة الحبيب» و«روح الحبيب» و«جراح الحبيب».. وقد أرهقته وأنهكته دون غيره.. متلمسين له وقفة لا صخب فيها ولا تراجع ولا مواجع.. هل نجدها في هذه الهمسة؟:
«أيها الساطع في قلب الليالي
كيف ترضى بعذابي واعتلالي
هل ستغدو وفي حياتي واقعا
أم ستبقى بعض أوهام الخيال»
استفهامات دون علامة استفهام! وليت شاعرنا وهو يتحدث عن خصوصية معاناته أحل كلمة «خيالي» عوضا عن عمومية الخيال..
«فإذا أزمعت قتلي فليكن
ما على المحبوب هذا العمر غالي»
قتل العمر ليس بهذه السهولة.. ما أظن شاعرنا أراد ذلك.. وإنا أراد القتل الذي عناه الشاعر القديم بقوله:
«إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا»
إنه يقول وقد قدم عمره فداء لحبه:
«منذ زار الحب قلبي لم أعد
غير طيف ماله أي ظلال»
الطيف هو الظل لا يحتمل وصف نفسه بنفسه.. ثم الحب يا شاعرنا حين يطرق بوابة القلب وينفذ إليه إنما يعطي له رعشة الحياة والأمل رغم القلق والألم.. إذ لا ورد دون شوك.. ولا حب دون صب..
«منزل الحبيب» فيه، وله، وبه تغنى الشعراء لعل أقربهم إلى الذاكرة بيت الشاعر القديم:
أحن إلى الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
وشاعرنا ادلى بدلوه في هذا المسار وغنى لمنزل حبيبته قائلاً:
«رمت الفؤاد بنارها ولظاها
لما أظلت في الدجى عيناها
فعجبت من صبح يطل على الورى
في الليل. هل ضل الصباح وتاها»
إلى أن يقول بعد أن تبسمت وتوردت من الحياء شفتاها.. وبعد أن تعطلت لديه لغة الكلام بعد أن رمت أمامه قنبلتها النووية صغيرة الحجم.. كبيرة التفجير «علامك ذاهل؟»
«وشعرت أن النور يبهر ناظري
لما سعت نحو السلام يداها
وأخذت من هول الجمال، وخانني
صوتي أمام سنائها، وبهاها»
يا صديقي في موقف كهذا يظل الصمت أبلغ كثيراً من الصوت.. شريطة أن لا يصاب بالموت..
«مدت لي اليمنى فقمت مصافحا
واستشهدت يمناي في يمناها
لم أدر ما معنى الزمان وطوله
إن الزمان أمامها يتناهى»
معيار الحب ومقاييسه تطوي المسافات وتختزل الأبعاد حتى كان صادقاً مصادقاً لا خداع فيه ولا انخداع به.
قصيدة رومانسية موحية بعذوبتها.. وأحيانا بعذاباتها.. إلا أنها في حوارها الثنائي تؤكد قدرة الشاعر متى تخلى عن موقف الانهزامية والضعف.. واختط لشاعريته مذهب البناء التصويري القائم على أبعاد الخيال.. والحوار.. واكتمال الصورة الشعرية، ولعلها المرة الأولى التي ارتاح لنهايتها بعد أن شبعت عذلا.. وذلا.. وانكساراً.. ونهاية ليست بنهاية!
«وبنيت فيه منزلا لحبيبتي
ودعوتها فأتت تغذ خطاها
سكنت إليه، وسكنت آلامه
وعلى جميع أموره ولاّها»
على بركة الله يا شاعرنا.. أرجو أن تكون بداية البداية لما تبقى.. لننتظر.. يبدو أن الشكوى عادت من جديد.. فتجارب الحب أكثرها يخيب.. وأقلها يصيب.. ومع الخيبة يطالعنا شاعرنا العتيبة بحكاية جديدة للحبيب ينادي فيها ليله الملبد بالوحشة والوحدة والأرق:
«يا ليل عذبني السهاد تشوقا
لحبيب قلبي، واستبد عناء
ما للمعذب في الهوى من راحم
إلا اللقاء فهل يتم لقاء»
أبدا اللقاء ليس معيار حب.. وإنما الارتقاء بالحب تحت مظلة أخذ وعطاء الإيثار وأحد جوانبه والتراضي أقوى دعاماته.. ولأن جادة حب شاعرنا طويلة طويلة لابد من اختزالها رحمة به ورحمة بنا فلقد تجاوزنا نشيد الحب وبكاء الحب وقد شبعنا منه لنستنشق معه نسمة رقراقة نستعيد بها أنفاسنا اللاهثة:
«ألا يا نسمة الفجر
أثرتِ الشوق في صدري
حملت رسالة كتبت
بماء الورد والزهر»
نعمق الرسالة المعطرة منها إليه وقد تعود أن تكون منه إليها.. تطور جديد يدعو إلى التفاؤل.. لقد أيقظته الرسالة من سباته.. صحا على نبض حروفها وهي تلامس شغاف قلبه:
ماذا قالت الرسالة؟ أي ماذا قالت صاحبة الرسالة؟!
«وقالت لي بعينيها
أنا أدري، ولا أدري!»
كيف.؟ هل أنه لغز؟ أم ماذا..؟ لابد له من اكتشاف ما يجهل:
«أتخفين الهوى خوفا
من الساعين للغدر
أم الأحباب قد أوصوا
بمنع البوح بالسر»
«وتجيبه الرسالة بفم من أرسلها كاشفة له السر مذكرة أيامه بالذي مضى عبر شريط من الذكريات تنتهي بهذا البيت:
«أنا إن مت مشتاقا
فهل للبخل من عذر»
الهموم كالغيوم السوداء تلاحقه و تكاد تحجب الرؤية في طريقه إلى درجة أن محطاته تجاوزناها دون أن نفطن إليها:
«هم الحبيب» و«اقرباؤه» و«صفاته» و«حبه الذي لا ينقطع رغم رماديته» ومع وعثاء السفر ومشقة الدرب أشعر أن رحلة حب ممتعة أخذتنا عبر أكثر من وقفة انتزعنا معها تأملات، وتأوهات، وتنهدات، وتوسلات، وإحباطات، وإسقاطات، لأنها وليدة معاناة شعرية جيدة في فصولها وفي فضولها.. وفي عذابها وفي عتابها الذي أنهى به هذه الرحلة:
«شكا من طول تعذيبي العذاب
وكاسمي عاف صحبتها الشراب
وضج الشعر من آهات وجدي
وغاب الأهل عني والصحاب»
هل قرأتم أجمل وأروع من أن يمل العذاب من طول التعذيب الذي يتم على يديه.. إنه بيت إبداعي ضارب في العمق والتصوير.. ماذا بعد؟!
إنه يرسمها أمامه كواحة يستعصي على الآخرين الاقتراب منها.. ومع هذا الحظر.. و مع وعورة الدرب فإنه يحاول وصلها والوصول إليها دون كلل ولا ملل.. فهل يصمد؟ وهل تستبين له الصورة؟!
«ولكن بعد طول السعي ألقى
بأن الماء وأسفي سراب
فأرجع ظامئاً، والقلب يهذي
ومرُّ الصبر في كأسي مذاب
واصرخ باكيا هذا حرام
أما للظلم حد. أو نصاب»..
ونحن معك يا شاعرنا الكريم نصرخ كأنت في وجه الظلم والظلام من أين جاء.. وما ظالم إلا سيبلى بأظلم تلك هي سنة الحياة.. بقي لي همسة في إذن أخي الشاعر الإماراتي المبدع أعمل مصالحة مع علامات الاستفهام الكثيرة التي تم اقصاؤها دون ذنب من مكانها.. أما أنت.. ومن خلال طوافي معك أشعر أن شعرك في مستوى وجاهتك.. ومادتك.. لقد حلق لوحده دون حاجة إلى عون.. ومع المزيد من العطاء.


الرياض: ص.ب:231185
الرمز: 11321 فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved