Culture Magazine Monday  04/06/2007 G Issue 201
الملف
الأثنين 18 ,جمادى الاولى 1428   العدد  201
 

استشراف الآتي.. والماورائية عند المبارك
محمد بن عبدالله السيد الهاشمي

 

 

قطوف جنيت من ثلاث حدائق.. قراءة في دفاتر مهجورة 1995م..فلسفة الكراهية 2001.. التطرف خبز عالمي 2006م.

ليس شرطاً تطابق هذا المقال مع ما ألفه القارئ من العرض التراتيبي عند الحديث عن الأشخاص وسيرهم، ففي هذه المقالة، تسجيل انطباعات، والتعبير عن أحاسيس ومشاعر عشتها أثناء قراءتي لثلاثة من كتب الأستاذ الدكتور راشد بن عبد العزيز المبارك أمد الله في حياته.. متتبعاً أمرين:

أولهما الماورائية وهي خاصية ومنهج دراسي يتميز بها نتاجه الأدبي والفكري والماورائية شيء من النفاذ إلى ما وراء ظاهر النص حيناً وتجاوز المألوف من الاستنتاج إلى غير المتوقع - ولنا مثل ذلك في مقولته المفاجأة (المتنبي ليس شاعراً).. فقد أحدثت هذه العبارة اضطرابا وأربكت الحياة الأدبية والمشتغلين بها.. حتى إذا فرغ القراء إلى قراءة كتابه الموسوم بها.. أدركوا مرام أبي بسام الداعي إلى فهم أوسع لملكات الشعر عند المتنبي.

وثانيهما، استشراف الآتي - وهي قدرة وملكة عقلية تخترق حجب المستقبل وتستشرف الآتي وكأنه ألغي من البعد الزمني المؤشر المتحرك الفاصل بين الماضي من الأيام والأحداث والآتي منها.

تم اختيار ثلاثة من إنتاجه الفكري، وهي محطات ثلاث توالت خلال عقد من الزمن 1995- 2006م، وكأننا سنرسل دورية استطلاع تجوب هذه الحدائق ترصد هاتين الخاصيتين.

قال الغزالي (فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله): وشاء الله أن أطالع كتاب الدكتور راشد المبارك وقد عرفته من سنين، صاحب عقل كبير، وخلق رحب، أستاذ في علوم الكون والحياة، أديب مكين، خبير في الشعر العربي، حرصت على صحبته ومجالسته وقراءته.

كتابه، قراءة في دفاتر مهجورة - بعدما ألقيت محاضرة بعنوان (حاضر العالم الإسلامي ومستقبله) وشعرت بأن هناك نقاط تماس في بحثينا أساسها أن الصراع بين الشرق الإسلامي والغرب الاستعماري، لم يكن صراع عملاقين في حلبة، هزم أحدهما الآخر (بالنقاط) بل إن هزيمتنا كما حللها د. راشد، جاءت عقيب علل عزّ شفاؤها. ثم يثني الشيخ الغزالي على ما أبدعه المبارك قائلاً: والذي يغينينا حقاً أن ندرس هذه (الدفاتر المهجورة) وأن نتابع النظرات الذكية التي ألقاها على تراثنا د. راشد المبارك فهو في هذا الكتاب بما حواه من فكر متجدد، ناصح أمين.

والماورائية لدى المبارك في كتابه قراءة في دفاتر مهجورة مزيج حراك - استدعاء ما ضوى بامتداد في الحاضر عبر احتشاد من النقد المستنير:

(أشفق عليك أيها القارئ إذا كنت من هذه القلة المصابين بالظمأ إلى الاطلاع والمعرفة من الانهيارات الكبرى التي تملأ الفضاء العربي، تقذف بها المطابع وتضج بها المجامع، وتسيل بها الأقلام، وتصك بها المسامع، أشفق على المثقف العربي لا من قلة ما يشاهد أو يسمع أو يقرأ ولكن من نوع ما يشاهد أو يقرأ أو يسمع..).

يحاور المبارك قارئه في مودة حنونة كاشفاً له منطقة مهمة في الوجدان العربي: مساحات في كيان الفرد متصلة فيما بينها ولكن منفصلة عن مساحات أخرى تتعلق بالممارسة والمعايشة أي التنبيه إلى الانفصال أو الانفصام بين الآمال والرؤى والفكرة.. وبين التطبيق والممارسة يقول (من صور الجذوة والخمود في فكر المسلمين): هل عرف البشر في تاريخهم الطويل جهداً مهدوراً أو مزاولة غير متحضرة، أو توحشاً في الطباع والأخلاق أكثر ضياعاً أو أشد جفاءً، وأبعد عن خلق الإنسان في مستواه المفترض والمشروط من جهد أو مزاولة أو توحش من يسعى لخنق الفكر.. أو الحجر عليه.. أو مصادرته.. أو فرض الفكر المخالف، عن طريق سوط الجلاد، أو عصى المؤدب: هل هو قارئ للتاريخ..ذلك الذي يظن أنه يمكنه التعامل مع الفكر.. لتأكيده أو الدفاع عنه أو محاربته بوسيلة غير فكرية؟.. أليس الفكر ناقد نفسه؟

إذا تنبهنا إلى أن هذا النداء الصادق صدر قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر..! تمثلت لنا هذه الملكة الراقية لدى المبارك في شف ما وراء مضامين الذهنية السائدة في المجتمع العربي وقدرته على رصد الآتي وفهم هذه الصيحة المشبعة بالتحذير والتنبيه، وعندما نسأل المبارك عن مقصوده بالجذوة يجيبنا: بأنها عنفوان الفكر في تعامله مع المقدس بالاستشراف الذكي للمقاصد والغايات والفهم المستنير لروح النص المقدس والنفاذ عند الاقتضاء من المنطوق وظاهر النص إلى مفهومه ومراميه - وفي الجانب الثاني من العملة.. عنفوان الفكر.. في تعامله مع المعاش في جوانب الحياة.. أي الفهم المحيط بالمدركات.. وكفاءة التعامل مع الحدث بسبر أبعاده وكشف ما ينطوي عليه من اهتمامات.. أما ما يعنيه بالفكر.. فهو القدرة على الاستفادة القصوى من طاقة الإبداع والتجلي الخلاق في العقل من خلال الملاحظة اللماحة واليقظة الراصدة - وممارسة التحليل والتعليل والموازنة والاختبار ومن ثم الحكم المميز بين الخطاء والصواب.

أبرز أ. د. عز الدين عمر موسى في تقدمته لكتاب (فلسفة الكراهية) علة فشل مشاريعنا النهضوية الحاضرة والمعاصرة، وطنية وقومية وإسلامية، بأنها علة داخلية لا خارجية، وأن هناك خطأ في تشخيص الداء فعز الدواء، وأن المبارك عالج جوهر المشكلة بدعوته إلى عدم تبرئة الذات، وفتح نافذة لدراسة العلل الداخلية لمجتمعنا كشرط للنهضة.. دون تبرئة الآخر.. الغرب.. في عدوانه الماضي.. الحاضر الماثل.

ومضى المبارك في دراسة (فلسفة الكراهية) عند الإنسان في مطلقه من حيث ماهيتها بتساؤل مستنير.. هل الكراهية موقف عقل؟ أم خلل في الطبع..؟ ثم مضى يسبر ويستطلع ما ورائية الظاهرة، تتبعاً ماضوياً وماثلاً في الحاضر وكأن التجربة الإنسانية حضور ملغى منه بعد الزمن مؤكداً بهذه (التفاعلية) على ما يحدثه إلغاء التاريخانية من إنضاج الانفعال الملزم لدى المتلقي ومحاصرة لمشاعر الاستنهاض لديه.

فدرس المبارك أزمة الكراهية ثم المجتمع الإسلامي في بعدين - أولهما: علاقة المسلم بغيره وعلاقته بمثله، وتتبع الروافد من غزو ثقافي وقراءة خاطئة أو محدودة للنص حاشداً كل العناصر المثمرة لجلاء ماورائية النتائج ثم متسلحاً بسلاح مبدأ (من أين نبدأ العمل..؟) مجلياً ميدان الصراع محدداً لأبعاده في (محاورة الذات.. ابتداء).

وفي ثالثة الأثافي - كتابه الموسوم ب(التطرف خبز عالمي) الصادر في طبعته الأولى 2006م.

تمثلت الماورائية - باعتبارها الاحتشاد للبواعث والدواعي المنتجة لكل ما يظهر على سطح الذهنية ويصاعد في الخطاب العام وفيها يوجد التفسير للسلوكيات والتعامل مع الحاضر.

وأما استشراف الآتي فهي هنا الحاسة اليقظة والاستعداد الوجداني الجامع لعناصر التفاعل الخلاق للمعارف والتجارب كما هو قدرة عقلية على التحليل والاستنتاج وصياغتها منطقياً مزينة بالرؤى، كما هي أيضاً علامات تنبيه وتحذير من المخاطر.

ومما يستدعي الانتباه في البدء أن كتابه التطرف خبز عالمي يرجع إلى ما قبل 3 سنوات حينما قدم د. راشد بحثه المعنون ب(التطرف والثقافة) إلى ندوة الحضارة العربية الإسلامية والغرب المنعقدة في مدينة قرطبة، أكتوبر 2001م، وإذا لحظنا أن الفترة بين 2001 - 2006م شهدت حمى من نوع خاص تلبثت في ثقافة الأرض - حمى البحث عن تعريف للإرهاب واتخاذ وحدة لقياسه وكأن العالم اكتشف وللمرة الأولى مدى حاجته الشديدة إلى تعريف للإرهاب واتخاذ وحدة لقياسه ومقاسه وكثافته وحجمه وأبعاده - في ذلك الوقت كان المبارك قد قدم الأساس الذهني لهذا التعريف، وبشكل دقيق في كتابه ذلك يقول المبارك في تعريف التطرف: التطرف شطط في فهم مذهب أو معتقد أو فلسفة أو فكرة، والغلو لذلك الفهم، وتحويله إلى حاكم لسلوك الفرد أو الجماعة التي تتصف به، والاندفاع إلى محاولة فرض هذا الفهم - والتوجه على الآخر بكل الوسائل ومنها العنف الإكراه.

هذا التعريف الجامع المانع، نقل الكلمة ودلالاتها من عالم المشخص (التطرف من طرف - كقولك طرف العصا) إلى عالم المجرد وذلك في مبدأ الأمر.. وقال: إن التطرف (شطط) والشطط لغة من لفظة (تشطط) ويستدعى في هذا الموقف الدلالة من القرآن الكريم:{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ} (22)سورة ص.

فالشطط هنا يمثل الخروج على مقتضى العدل - ثم ننهل معنى آخر للشطط في الآية الكريمة: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}(14)سورة الكهف.

والشطط هنا مجافاة الحق والسوي ثم نمضي إلى مدلول ثالث للشطط في الآية الكريمة: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} (4)سورة الجن.

ودلالة الشطط هنا قول السفاهة الحامل بالظلم.

فالمبارك استدعى الدلالات من أكرم مصدر حيث ينتهي عنده القول الحكيم.

فالتطرف هو شطط، أي زيادة وتزييد مع انحراف وتشويه، موجه إلى فهم مذهب، أو معتقد أو فلسفة أو فكرة، وعلى ذلك برزت للتطرف أركان أربعة لا بد من توافرها لقيام التطرف وهي:

الركن الأول: شطط في الفهم.

الركن الثاني: غلو في التعصب لذلك الفهم.

الركن الثالث: سلوك فعلي عملي.

الركن الرابع: فرض الفهم بوسائل العنف والإكراه.

وبهذا صار التطرف سبباً للكراهية والاستعداء، وصار الإرهاب الذي نحاربه اليوم هو الركن الرابع للتطرف بشروطه وليس هو الوارد في قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}(60)سورة الأنفال.

والبحث مثال رائع على سبر وتحليل المبارك للظواهر الاجتماعية والفكرية محل التأزم والقدرة على تقديم الحلول واقتراح التدابير الاحترازية والعلاجية.

المبارك في ماورائيته واستشرافه للآتي - يعيد إنتاج أسطورتنا العربية - زرقاء اليمامة - قدر الزرقاء.. في ذهنيتنا.. القديمة - الجديدة - الدائمة - هي أن الظروف والأقدار تقدم لنا في كل حين من يكشف.. من يحذر.. من ينصح.. من يمكنه استشراف الآتي.. من لديه حدس وكشف الما وراء لكننا في معظم..إن لم يكن في كل الحالات - نستفيق بعد فوات الأوان.. قدر الزرقاء - أن تبقى العيون المبصرة - الصحيحة - المطلعة على الآتي مبعده عن الفعل - أما عيون القوم فهي بصيرة، والله المستعان.

أبو نعمان 25-03-2007م.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة