Culture Magazine Monday  04/06/2007 G Issue 201
فضاءات
الأثنين 18 ,جمادى الاولى 1428   العدد  201
 

الريحاني الآخر ليس عدواً (3 - 3 )
عبدالرزاق عيد

 

 

بيرسي كوكس الذي يوصي الملك عبد العزيز بالريحاني، هو مندوب سام بريطاني وليس أمريكياً، وهو يتمتع بموقع فائق في السياسة الخارجية البريطانية أهلته لأن يعتمد عليه في ترسيم الحدود في منطقة الجزيرة العربية، لكن الريحاني الذي احتل موقعاً أثيراً في الجزيرة العربية لم يكن بحاجة لتوصية كوكس لأن (الأستاذ الريحاني منا) كما يرد الملك عبدالعزيز على توصية كوكس، تلك هي العروبة التي هام الريحاني بها عشقاً، فوهبه الأحفاد لقب جاسوس، وذلك نكاية بالأمريكان الذين يعتبرونه فيلسوفاً قديساً!

هل كان الريحاني الذي يتمتع بكل هذا النفوذ الأدبي والمعنوي لدى الملك عبد العزيز وعلى هذه المستويات من الصلات والعلاقات بمستوى دولي بوزن بيرسي كوكس، بل على مستوى طلب الخارجية الفرنسية مشورته كما أسلفنا، نقول: هل كان هذا الرجل بحاجة لكتابة تقارير للمخابرات الأمريكية التي لم تتأسس إلا بعد وفاة الريحاني بسبع سنوات، أي سنة 1947 كما يشير أمين البرت الريحاني في مقاله الذي يفند هذه الادعاءات الساقطة توثيقاً وأخلاقاً، وذلك في جريدة النهار 27 حزيران 2006 .

تلك هي جائحة منطوق فلسفة (العروبوية الإسلاموية) اليوم التي قادها الأبناء والأحفاد العروبيون إلى المستنقع، مستنقع العقل القروي الذي طالما هزئ الريحاني به بوصفه الرداء الفكري للشعبوية، وجائحة العقل الطائفي - الذي هو تعريفاً نوع من الخيانة الوطنية حسب الريحاني - لكنه العقل الذي يقدم نفسه اليوم بوصفه ممثل الوطنية والجهاد وكرامة الأمة العربية والإسلامية.

فوسط جائحة التخوين هذه لا يتردد حتى عرابو المشروع الأمريكي الأوائل في المنطقة، حيث العمالة ترتقي إلى مستوى (سياسة دولة)، ولنتذكر في هذا السياق رسالة توماس فريدمان إلى القيادة السياسية لإدارة مجلة الهلال، فحتى هؤلاء العرابون يدخلون سوق المتاجرة بشعارات المقدس الوطني رغم أن الاقتصاد المصري بكامله يقوم على المعونات الأمريكية كما يقول حسين أحمد أمين، وذلك ثمناً لبيع المواقف، بما أطلق عليه تسمية (اقتصاد البخشيش)، واصفاً المعونات الأمريكية بوصفها شراء للدور المصري القومي الذي أخرج من الجبهة العربية!

إن الناطقين الإعلاميين الرسميين لاقتصاد العمولة والعمالة هم الذين يخوِّنون أمين الريحاني أحد رموز الثقافة العربية الذي انتزع لنفسه في القارة الأمريكية نصباً تذكارياً بمثابة وسام لأرفع قيم الفكر التنويري العربي. هذه الصوفية والنزعة الأخلاقية وأولوية الإصلاح الروحي التي تتنفس بين سطور الريحاني في العقد الأخير من حياته.

هذه الروح المتسامي والمتعالي إلى درجة معانقة المطلق (الحب والخير والجمال) انطوت عليه جوانح الريحاني، إذ هو يتعشق ويشبب بالعروبة بوصفها الدائرة الكبيرة التي تضم حتى المتعصب ضمنها، وهي دائرة تتسع للجميع بما فيها مع عدو الداخل المتعصب لمركزية أناه الكريهة طغياناً وفساداً واستبداداً.

هذا الروح المتسامي روحياً وفلسفياً والمتسامح أخلاقيا ساعد بمثاليته وصوفيته الوجدانية - مع الأسف - على تغذية الجائحة القومية الشوفينية، بل العنصرية التي تغلغلت في مفاصل الإيديولوجيا القومية في الأربعينات عبر الابتعاد التدريجي عن محتواها الدستوري الديموقراطي، إذ راحت تنحى مع الناصرية منحى (تقديس الفرد) الصانع للتاريخ بإرادة نيتشوية فلسفياً، وبونابرتية تاريخياً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أذابت تناقضات الداخل، إذ أبعدت العدو القابع في الداخل (التأخر والاستبداد) إلى الخارج ليغدو مشجباً استعمارياً، فخسرنا تلك النزعة الراديكالية الشجاعة في مواجهة (الأنا التقليدية) بعد أن قدم الريحاني قراءة استثنائية فريدة في تقصي جذور الطغيان والاستبداد في التاريخ السياسي العربي، وذلك في كتابه (النكبات).

النكبات:

التعرف على الماضي للاتعاظ بمساوئه: إن منصة الانطلاق منهجياً في قراءة لتاريخ الماضي العربي، كانت مضادة لكل ما ألفه العقل العربي من التعامل مع التراث (الديني - السياسي - الفكري) بوصفه أباً جليلاً يمثل مرجعاً استشارياً في كل خطوة يخطوها العقل باتجاه تلمس ذاته في حاضره عبر أمثَلَة لهذا التراث الذي لا ترى فيه إلا الكمال والتمام والعظمة، وبمثابته عين الحكمة وموئل الصواب.

بينما كانت مقاربة الريحاني للتراث مقاربة متمردة، حيث الأمثولة - والأمر كذلك - لم تعد في اكتشاف أمجاد الماضي، بل (الأمثولة التي تعلمنا أن نتعظ بمساوئ الماضي، تعلمنا أن من الإثم أن نورث أبناءنا ما ورثناها من مساوئ الماضي، نقرأه لكي ننساه) مواقف- النكبات ص 147 -149حيث سينهي كل مقطع من مقاطع التاريخ الذي يسرده بأمثولة تكشف مساوئه، فالمقطع الذي يبدأ به تاريخه (سام وحام ويافث)، فإنه بعد أن يتناول عناصر أحداث هذا الزمن، يختمه بهذه الأمثولة النقدية القادحة في جرأتها وشجاعتها: (بلادي موطن العصبيات أنت ومدفن الوطنية) النكبات ? ص 157. وينهي المقطع المتصل بـ(الاستعمار الفارسي) بالحديث عن نجاح الفاتح المقدوني من إخراج الفرس من البلاد السورية. ويختم هذا المقطع بتلك الأمثولة: أجنبي ينقذنا من أجنبي على الدوام! نكبات - ص 164 .

ويختم الحديث عن الاحتلال السلوقي ومن ثم إخراج الرومان لهم، وتحول سوريا إلى ولاية رومانية، بتعليق (من أجنبي إلى أجنبي على الدوام) النكبات 166 ثم يعقب على فصل (بنوغسان والرومان) بانشاد: أنت سوريا بلادي، أنت عنوان الفخامة! متهكماً من نشيد وطني معروف من وضع فخري البارودي.

ثم في مقطع لاحق يعقب على الأحداث: أنت سوريا بلادي، أنت بابل العصبيات، وأنت بابل الأديان ص 176 .

ورغم إعجاب القوميين - عادة - بالدولة الأموية، فإنه يعيد المحاكاة الساخرة لنشيد البارودي (أنت عنوان الفخامة) بعد أن يعتبر أن دوائر التاريخ الأموي والعباسي كانت لا تدور على الباغين الظالمين السفاحين، بل على الأهالي المساكين... الذين يلبون الدعوة للجهاد.

ثم يتناول تاريخ الدولة الكلبية: (دولة بني مرداس- دولة بني حمدان - دولة بني جراح، دولة بني شعان، أي دول بني كلب - دول الكلاب كلها!) ص 186، ذاهباً في تعرية رموزها وأمجادها الزائفة القائمة على الظلم الشامل للناس (الذين يدفعون الخراج، ويأكلون الكرباج، ثم يحملون السلاح...)، وحيث الرمز الأبرز لهذه الدولة سيف الدولة (كان يخرب قرية ليجيز شاعراً مدحه بقصيدة)، وبعد مقطع أهوال تيمورلنك، يعلق الريحاني : لبنان بلدي، سوريا بلادي، أمن نكبة إلى نكبة على الدوام... إلى المزبلة بمثل هؤلاء! النكبات - ص 199- 201 . والخاتمة ستكون مع الدولة العثمانية، (الآخر) البغيض الذي لم تستطع دائرة تسامحه وحبه أن تتسعه، نظراً لكونه يشكل الأطروحة المضادة المعاصرة والمتزامنة ضدياً لكل الترسيمة الريحانية الدستورية الديموقراطية المدنية، ليختم رحلة النكبات بترداد إيقاع النشيد ذاته: أنت سوريا بلادي، وأنتم أيها الطغاة العتاة أجدادي. النكبات - ص 211 .

الدولة الدستورية هي الإشكالية الرئيسية لعصر النهضة:

إن الترسيمة النظرية لبنية الدولة السياسية الوطنية والقومية: هي الدولة الدستورية، هذه الدولة هي التي تؤطر كل الممارسة النظرية ليس للريحاني فحسب، بل لفكر عصر النهضة بكامله بدءاً من التأسيس لها في برنامج الحزب الوطني المصري 1882 الذي وضعه الإمام محمد عبده وصولاً لحركة الضباط الأحرار التي دشنت الزمن الانقلابي العسكري الريفي على الدولة الليبرالية العربية ليس في مصر فحسب، بل في العالم العربي.

إن قرار مجلس الثورة ترفيع الرائد عبد الحكيم عامر إلى لواء بسبب ولائه لقيادته لا لسبب خبراته، قد دشن هذه الانقلابية الثورية التي ستكون ترجمتها قيادته الجيش المصري لهزيمة حزيران 1967 ، منذ هذه اللحظة وهزائم العسكريين القوميين تترى إلى يومنا هذا، وهم بمقدار ما يهزمون يترفعون ويصعدون ليتوجوا هزائمهم أمام الخارج بانتصارات ساحقة على جبهة الداخل ضد شعوبهم، فحازوا على أعلى الألقاب (القائد الضرورة - الأب القائد)، حيث كلهم يفتدون بالروح والدم ليس بالشعارات فحسب، بل في الواقع استمراراً لتاريخ النكبات التي رصدها فيلسوفنا. منذ العقد الأخير في تسعينات القرن العشرين بدأت لحظة الفيقوقة الدستورية وذلك بعد خمسين سنة من النظام الشمولي الشعبوي العربي الرث الذي انقلب عسكرياً - فلاحياً على النظام الديموقراطي الليبرالي الدستوري في مصر وبلاد الشام، حيث سيعاد - منذ تسعينات القرن الماضي - الاعتبار إلى نموذج الدولة الدستورية الديموقراطية التي أسس لها عصر النهضة العربي والريحاني إحدى القامات الشاهقة لهذا العصر التنويري المدحور.

وهذه الترسيمة تبدأ بالفرد بوصفه ذاتاً عاقلة حرة مستقلة قادرة على الولاية على نفسها، وذلك هو أسس المشروع الديموقراطي في الغرب، حيث (الأمم لا تتقدم الا بتقدم أفرادها، وأن الحكومات الحرة لا تقوم إلا بشرائع عادلة تسنها المجالس النيابية، لا بأوامر يصدرها الملوك والسلاطين. وأول حقوق الإنسان الحرية، حرية الفكر، وحرية القول، وحرية العمل.

وأول أسباب التقدم في الأمم الحرية الاجتماعية والسياسية والدينية. ومن أكبر دعائم الحكومات الحرة قانون يكفل لشعبها هذه الحقوق الأولية، ويوجب عليهم الدف.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7464» ثم أرسلها إلى الكود 82244

حلب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة