الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 04th July,2005 العدد : 113

الأثنين 27 ,جمادى الاولى 1426

قصة قصيرة
في غياهب القلق!
أحمد بن خالد العبد القادر
ما زالت (أم أحمد) تذكر اللحظة التي دلف إليها ابنها (أحمد) وهو يتطاير فرحاً والبشر قد ملأ وجهه وحملت يداه وثيقة التخرج من الجامعة مذيلة باسمه محتفلة بشخصه، لا زالت تلك الأحداث تتراص أمام مخيلتها، لا تسمح لها بلحظة نسيان ولا تغيب عن بالها مهما كان، ودواعي ذلك إنما تستجلب كلما أبصرت وحيدها (أحمد) منزوياً في حجرته خاملاً في سريره لا يغادر عتباته، وقد اعتزل المحيطين به حتى أقرب أصدقائه تركهم بعد ود ودوام لقاء، لتنفض الجموع من حوله وتخيم العزلة في قلبه، ما زالت أواني الطعام كحالها عند تقديمها له وعند أخذها منه لا يلمس منها شيئاً ولا يرتشف منها ولو قليلاً من رشفة، كلما دخلت عليه والدته أشاح بوجهه عنها والتحف الغطاء ليخفي دموعه المنحدرة على خديه، في اللحظة التي ذرفت أمه دموعها وانتحبت وهو يسمع نشيجها المرتفع، أيام ثلاث مضت والحال على ما هو عليه، قبل أن يرتفع رنين الهاتف مدوياً خارقاً السكون المتداعي على المنزل للأيام الفائتة، منزل أحمد عبد الله؟، صوت رجل أشرج تردد صداه في مسامعها، لتردف إليه مجيبة: أجل، هو منزله، أجابها نحن من ديوان الخدمة، ونبشركم بأن اسمه مدرج ضمن المعينين على الوظائف التعليمية، فرجاء سرعة مراجعتنا لاستكمال الإجراءات اللازمة، تهلل وجه (أم أحمد) وقفزت من الفرحة ولم تشعر أنها أغلقت السماعة دون أن ترد على الرجل، وانطلقت مسرعة إلى فتاها الوحيد لتزفه البشرى بهذا النبأ السعيد الذي طال انتظاره، ودار في خلدها انتفاضة تصيب وليدها توقظه من حال الجمود الذي ران على حياته، دفعت الباب لتلقى وليدها ساكناً واجماً كعهدها به منذ برهة، وقد تطايرت فرحتها لتزف إليه الخبر، مبروك يا أحمد، لقد حصلت على وظيفة!!، انتفض أحمد في مكانه واضطرب وعقدت الصدمة لسانه، فعاجلته لقد اتصل بي موظف من ديوان الخدمة وأبلغني الخبر السعيد، قفز أحمد من سريره كعصفور أطلق من قفصه وصدح بفرح غناء أشجى وأطرب النفوس، عانق أمه بعمق وسعادة وقبّل يدها قبل أن يعاجل نفسه ويفتح دولابه ليعد الأوراق المطلوبة لإتمام بقية إجراءات التعيين، وطال عليه الليل متلهفاً بشوق ليعانق نسيم الصباح، وانطلق في اشتياق إلى مكتب الديوان ليصعق من الأفواج المنتظرة على الباب، وكان يعد نفسه وحيداً عند التقديم، ويمتد الوقت وتطول المدة في وقوف جامد، أسرّ إلى نفسه هول المتقدمين ها هم في ازدياد ونمو، ليحل الفرج بعد حين ويكون أمام مكتب تقديم الأوراق، ويسلم أوراقه ويخرج بسرعة بعد أن أخذ منهم موعداً يراجعهم فيه، وهو يتأمل الأعداد الهائلة التي ما زالت تنتظر فرصة التقديم، وسرى في نفسه شيء من الزهو بأنه سبقهم وأنه حاله يفوق كثيراً من حالهم، لم يدر بخلده أنها أحلام يقظة وأوهام تحيط به من كل ناحية، لم يعهد أن يبلغ به حال الانتظار أسبوعين منذ تقديمه الأوراق المطلوبة، كان ينتظر رنين الهاتف أن يصم أذنه فهو سيفرح بذلك دون شك، ولكن الانتظار طال والاتصال لم يرد كما أمل، لم يحتمل خاطره هذا الانتظار الكئيب وتوجه إلى مكتب الديوان لعله يظفر بخبر يبرد الحرارة التي اشتعلت في قلبه، رمقه الموظف بنظرة باردة وهو يتوسد كرسيه الناعم، حسناً!! وماذا في ذلك ألا يسعك الانتظار؟!، كانت كلمات كسكاكين تغرس في صدره، ما هذه اللهجة الباردة التي يخاطبني بها، ولكني قدمت أوراقي وقلتم إنكم ستتصلون بي بعد يومين وها هي أسابيع ثلاث تمضي دون جواب يطمئنني، نهض الموظف من مكتبه وتوجه ناحيته وأمسك بكتفه، وأردف قائلاً: يا ولدي عليك العوض قد حصل خطأ بسيط والوظيفة لم تكن لك بل كانت لشخص آخر ولكن كان هناك سوء فهم، ولا ضير من الانتظار، خر أحمد في مكانه مغمى عليه، وفتح عيناه برؤية ضبابية لم تفصح عن المكان الذي ينام فيه، بدت تنقشع الضبابية ليرى نفسه على فراش طبي وثير وسلك قد حوى سائلاً مغروزاً في رسغه، في حين لمح والدته ودموعها لم تجف بعد من خديها، جاهد نفسه لكي ينهض، عاونته أمه ليقعد على الفراش، والهم قد ارتسم على وجهه وغابت عن سحنته بشاشته.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved