الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 04th December,2006 العدد : 179

الأثنين 13 ,ذو القعدة 1427

النقد الثقافي الغذامي..
الردة نحو الأسمى!
د. عبدالله أحمد حامد

يحاول العنوان بدءاً أن يتجه نحو أبعاد رئيسة أنتجت هذا المشروع الثقافي، من خلال المصطلح منتجاً نظرياً قاراً لدى الآخر، ومستعيداً تشكله من خلال الغذامي الذي بعثه من مرقده الغربي، واتجه إلى إلباسه ثوباً عربياً حاول قدر استطاعته أن يلائمه شكلاً ومضموناً، إذ حافظ على ذاكرة المصطلح، وأضاف عليها ما يراه مناسباً لوجهتها العربية الجديدة، وقد أفلح في عرض عمله، واحتاط وناقش وحلل على نحو متميز وإن كان لا يمكن معه أن يكون قد سلم مما اتهم به أو وسم الجاحظ وأبا حيان وطه حسين، من الترهل اللغوي، ولربما كانت الأكاديمية المدرسية تلاحق الغذامي فتراه يقدم المصطلح محللاً ومكرراً على نحو قلت معه مراراً ليته توقف حتى لا يقع في مأزق العيب النسقي، وهو نسق سيبدو لاحقاً أن الغذامي وإن حاول أن يتخلص منه أحياناً، إلا أنه يظهر لنا نسقياً صارخاً في أحيان أخرى إذ يتهم جنود مؤسسته النقدية السابقين واللاحقين بالعمى الثقافي، ولم تكن فتنتهم مثلاً إلا أن قالوا: إن أبا تمام كان أنموذجاً للحداثة العربية! وكذلك كان الغذامي من قبل فمن الله عليه بهداية نقدية رآها حلاً لإشكاليات الشخصية العربية التي نعانيها اليوم في خطاباتنا المختلفة، وإن كان النسق ليستفزُه حيناً آخر فيوقعه في مجاهل التعميم والجزم! حين يبدو الخطاب العربي الأدبي شعراً ونثراً، بل والخطاب السياسي والإعلامي والحزبي خطاباً مصبوغاً بالكذب والزيف السياسي والاجتماعي والثقافي التي تتوحد فيه الأنا الملغية للآخر.
وأشهد أن الغذامي كان محقاً لو أنه اقتصد في الرؤية العمومية، وبحث في ألوان الخطاب المتنوعة بيد أنه أرادها غذامية عامة خالصة، وكأنما النسق هنا يحيله إلى فحل آخر، جاء مخلصاً لهذه الخطابات من نسقيتها فتحولت البوصلة البحثية وهي تناقش المصطلح وذاكرته، نحو الغرب، وكان حرياً بها أن تحيل وجهها تلقاء ذاتها، لترى أن هناك خطابات أخرى تدعم فكرة الغذامي وتشد من أزرها...
لذا فإن النسبة الغذامية هنا نسبة يحددها الشرط العلمي، وإن كنت لا أعدها مسلمة صحيحة في عمومها، مع الاحتفاظ لها بتحليلها وجهدها البحثي الذي لا يُستغرب على باحث بارع مثل الغذامي، الذي أمضى سنين من حياته وفياً مخلصاً لمؤسسته النقدية، بيد أنه عاد ليكون جندياً ضحى بمنجزاته ومنجزاتها! حين انقلب عائداً إلى المعنى وإلى نقده، وسؤاله بل وتجريمه، وتلك ردة رائعة تستحق الإكبار والإعجاب لأن عرابها وداعيتها وباعثها هو ابن المؤسسة ذاتها، ولعل حركات التغيير الناجحة هي التي تنطلق من الداخل، حيث تُشكل قناعةً راسخة، وإيماناً جازماً بضرورة التغيير! أو ليست الردة هنا تتجه نحو إعادة الرؤية من زوايا أكثر شمولاً وسعة، إنها الرؤية الكاشفة الفاضحة، التي تُعدُ الخطوة الأولى في سبيل العلاج، والظفر بأسبابه، إنها الرؤية بعد الجهد والإخلاص، أوبة القناعة بعد ضراوة التجربة بكل أبعادها، فكم كان رائعاً ارتداد موسى عليه السلام وفتاه إلى الصخرة بعد أن جاوزاها، لتكون العودة ظفراً بالمطلوب المهم، وكم كانت مهيبة لحظة ارتداد بصر يعقوب عليه السلام بعدما أرهقه البحث والسؤال وران على قلبه بكلكله سنين عدداً.
يطرح الغذامي رؤاه حول هذا النسق حتى ليقع أحياناً في الترهل اللغوي الممل الذي يصنع القاعدة ولا يزال يكررها على نحو يبعث على الملل والسأم، دائراً حول شروط النسق وتجلياته التراثية والحديثة، والسؤال المشروع هو عن تلك الانتقائية المزعجة التي سار الغذامي عليها وهو يبحث عن ذاكرة المصطلح باتجاه الغرب وغرب الغرب كما يقول في بعض كتبه، ألم يك حرياً بالغذامي وهو التراثي المركوز في عمق التراث أن يولي وجهه شطر منجزه الفكري الثقافي، بحيث تكون الآيات القرآنية الذامة للشعر وأراء المفسرين حولهما أنموذجاً مبكراً جداً، لنقد ثقافي راشد، أليست الغواية في سورة الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون مدعاةً للتأمل والبحث والاستقصاء، بحكم موضوعية البحث وشروطه العلمية، لا العاطفية الإنشائية!! ألم تك أحاديث من مثل (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب) يعد علامة ضاربة في صميم النسق الذي حاربه الغذامي بخيله ورجله..
أليس موقف الإسلام من الشعر عبر المحكم من نصوص الشارع ذخيرةً علميةً لا يقبل المنهج العلمي من الباحث تجاوزها، حتى وإن كانت تقابل بآراء أخرى مؤولة ومختلفة، ولعل الغريب أن الغذامي يجعل من فترة عصر صدر الإسلام استثناء وموقف عمر بن عبدالعزيز جملة ثقافية معترضة وخطب عصر صدر الإسلام استثنائية ونادرة أيضاً، ومقولات الجاحظ وابن رشيق والأصمعي التي تذم الشعر هامشاً للمتن الغذامي بحجة أنها لم تتحول إلى عمل منهجي تنظيري، وبالتالي فليس غريباً أن يُضْحي عمل على الوردي مستخلصاً شعرياً، وليس حقيقة قبلية، بينما تحضر على نحو واضح وصريح ومباشر مجموعة برمنجهام ورؤى (كلنر) و(ليتش) و(رزينو) وهي رؤى فاعلةُ ومؤثرة وعميقة ولا شك، لكنها تأتي ضمن سياقها الموضوعي والتاريخي خلف زامر الحي الذي نتفت أرياشه نسقيةُ غذامية صارخة.
فهل كان النسق الغذامي قد عمل عمله مع الغذامي الذي كان يلاحقه بكل بسالة، لكن النسق أوقعه بحيلة من حيله في شرك براءة الاختيار والإقصاء أو قصديته! فهل لنا أن نداوي جملة الغذامي وفق (داوها بالتي كانت هي الداء) حين يقول عن الجزء الذي غيبه من التراث إنها (ليست سوى أمثلة على آراء منتشرة ومبثوثة في التراث لا تضع الشعر في موضع رفيع، ويبدو عليها الإحساس بالمشكل الشعري، غير أن هذا لم يتطور إلى نظرية ناقدةِ للخطاب الشعري).
هل كان الغذامي عاجزاً عن الفصل بين المؤسسة السياسية وتوجهاتها وقناعاتها والنص الفكري ودلالاته وفضاءاته الحرة التي تقدم خطابها، ولا ترتهن في سلامته إلى خلل السلوك، واعوجاج الممارسة..
أم هل كان الغذامي يعتقد أن في الإشارة إليها ما يحيل مشروعه الثقافي إلى منتج مجموع ليس للغذامي فيه سوى الجمع والتنسيق والتشكيل النهائي ولذا كان لا بد من الاحتياط لهذا الجانب، عبر تمرير مجموعة من الإشارات التي لا تشكل رؤية، وتحمي في الوقت ذاته الغذامي من سؤال البحث العلمي، فيأتي علمُ (مصطلح الحديث) (وأصول الفقه) وإشارات النقاد وحوادث الروايات عابرةً سريعةً، أمام نسق غذامي خطير يقدم نصين متباينين ظاهر ومضمر! ويتجاوز الغذامي بنسقية ظاهرة أسئلة مهمة ومركزية حينما يحمل الخطاب الشعري عموماً نسقية الشخصية العربية! وهو أمر يقبل للغذامي وبخاصة في إطار الشعر الفخري والمدحي إلا أنه يستثني وحق عليه هذا بقوله (إن في الشعر صفات أخلاقية وجمالية راقية يحسن بنا أن نتعلمها وأن نتمثلها وهي ما يُبرر دعوات تعلم الشعر وتربية الناشئة عليه)، والسؤال هنا لِمَ لَمْ يؤثر هذا الشعر الأخلاقي في الشخصية العربية ويخرجها سوية واعية، بينما أثر ذلك الخطاب النسقي، على الرغم من أن الأدوات الجمالية واحدة، وربما تفوقت في خطابنا الجمالي الأخلاقي!
أحسب أن لذلك علاقة بمفهوم الغواية التي أثبتها القرآن للشعر، وبانفصام القول عن العمل، برغم وجود الاستثناءات القرآنية والحديثية...
لقد كانت الأنا المتضخمة بلا شك تفعل فعلها النسقي الخطير الذي أثمر عن ميلاد الفحل، وخروج الطاغية، وهي نتائج طبيعية لبدء طريق الغواية التي تقول ولا تفعل.. وهو خطاب شعري واضح ومتجذر في خطابنا الشعري لا أظنها تحتمل كثيراً تمحل الغذامي الظان بوجود وجود خطابين متناقضين، ظاهر ومضمر، فالجمال الفني والقبح المعنوي ظاهران تماماً، لا يخفيها، بل ولا يقدر النسق المضمر على الاختفاء وإن حاول الغذامي أن يخفيه، وبخاصة عند المتنبي في خالدته (واحر قلباه) التي أظن أن الغذامي خشي خروجها عن نسقه الذي صنعه فاحتاط بالهجوم مدافعاً، إذا كانت القصيدة في بعض أبياتها متجلية صارخة بعيدة كل البعد عن النسق المضمر، إنها احتجاج شاعري تاريخي نادر أمام السلطة السياسية، وثورة واضحة لا خفاء فيها ولا إضمار، فأين يكمن النسق المضمر في قوله أمام ممدوحه وماتبه سيف الدولة وحاشيته:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون هم
قد يكون الفحل هنا ملغياً للطاغية، وقائماً مقامه، لكن النسق المضمر هنا لا محل له، إلا إذا عدنا نرتهن إلى الجمالي في نظرنا لهذا النص حيث الشحم والغرة وعمى الألوان...
لقد كان الخطاب صارخاً حاداً واضحاً، بل ربما كان من أهم ميزاته هذه الروح الثائرة الغاضبة أمام السلطة!
وكم كنت أتمنى لو وقف الغذامي عند مظاهر التضخم في شعر (المديح والفخر)، كما هي ظاهرة بينة بيد أنه في سبيل السعي إلى بناء نظرية صادقة مطردة، لم يشأ إلا أن يطل على السرد العربي الحكائي الذي رآه على نحو غريب مخزناً نسقياً مهماً يفضح ويعري الفحل، مستشهداً بقصة طرفة والمتلمس مع عمرو بن هند، (حيث يُقتل طرفة، ويكون الخطاب الواعي من ذلك الشيخ الذي كان يأكل ويتبرز ويقتل القمل) وقصة امرئ القيس مع جاريته، وهي قصص يبدو النحل واضحاً عليها، إلى جانب أن هناك من السرد الحكائي ما ينقضها ويرد عليها، حيث تغدو الحكاية أحياناً إكمالاً للفحولة، وتأكيداً لها عند موت الفحل، كما حصل لابن عمنا الشنفري الذي تقول بعض الروايات إنه حلف أن يقتل مائة من بني فهم لإخفائهم نسبه، حيث قتل تسعة وتسعين ثم قُتل، فمر به فهميُ فرفس جثته برجله احتقاراً له، فقيل إن شظية من عظام الشنفري المتناثرة دخلت رجل الفهمي فمات متأثراً بالجروح فتم بذلك قتل مائة!وهو سرد حكائي يجب أن ينظر إليه وفق شروطه الفنية الخيالية غالباً، وإلا فسنضطر إلى إمعان النظر مرة أخرى في رجل الفهمي المقتولة وعظم الشنفرى وذئب جارية امرئ القيس الذي جاء على قدر عجيب، وكلها منجزات خيالية لا تقتل نسقاً، ولا تفضح فحلاً! ويبقى الغذامي وصنيعه البحثي هنا مثارا لكثير من الجهود التي آن لها أن تعود إلى خطابنا الإبداعي في سبيل الخروج بشخصية عربية متوازنة، أمام هذا المجتمع الحضاري المدهش.

الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved