الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 5th January,2004 العدد : 42

الأثنين 13 ,ذو القعدة 1424

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي
حبيبتي أنت
يحيى توفيق

بالتوفيق يا يحيى نبدأ معاً هذه الرحلة الشعرية نستطعم مذاقها.. نتلمس أشواقها.. بل ونتحسس أشواكها..
إذ لا شوق دون شوك.. ولا نجاح دون معاناة.. ولا أمل دون معاناة عمل..
قبل أن يأخذنا شاعرنا معه نحو نقطة البداية نتفاجأ أن تأتي البداية رجوعاً.. في مقطوعته الوجدانية «الرجوع»
«نادمت ليل الحزن في عينيك
وأرقت أعوامي على قدميك»
لماذا كل هذا الاستسلام المبكر والمفاجئ بدايتها نهاية يا صديقي؟ حرك دولاب مقاومتك.. أو ممانعتك من أجل أن تحتل ارضاً على مساحة حبك أو حبيبتك.. المرأة تعشق الرجل المقاوم القائم على قدميه لا الراكع بين قدميها..
لعل لشاعرنا العذر وأنا ألومه.. لقد خبرها بعد عمر من الضعف وإذا بها تستجيب لحبه باكية لقلبه هاتفة باسمه «لبيك لبيك» أبيات قليلة اختصرت قصة طويلة هذا لا يكفي.. ولا يبل ظمأ العطاش ولا المتربعين الذين يراقبون في تطفل قصة حب بين اثنين وحدود مواجهة ومجابهة.. حسناً فقد دلنا شاعرنا كيف جاءت البداية لهذا الصراع بين عاطفتين.. أو لنقل بين عاصفتين:
(أقبلت حالمة، وقلبي قد دنا
يستاف وهج العشق من شفتيك
كالفجر حانية، ملأت بيادري
حباً.. فطار بي الحنين إليك
وتحيرت عيني فكلك فتنة
من فرعك الداجي إلى قدميك)
مجرد ملاحظة عابرة.. وددت لو أن شاعرنا أبدل كلمة فرعك بكلمة رأسك للجدل بشعوره السوداء الفاحمة. إنه ادعى للتصوير..
شاعرنا لم تستمر عيناه.. كانا بالنسبة إليه عدسة نافذة تلتقط الصور دون أن تتوقف.. ساقاها من ألق يد كريمة..
شلال ضوء يشع من جسدها، غيمة نرجسية هبطت من عينيه لعينيها.. ما هذا؟ إنها فينوس السحر والجمال كما رسمتها ريشته وأبدعت في تشكيلها، ألا تستحق منه ألف قصيدة وقصيدة.. بلى..
ومن تجربة حبه يأخذنا إلى تجربة حرفه:
(هذا يراعي بليل الصمت ينثقب
ومن دمائي ضفاف الحزن تختضب
من أخرس البوح في ذاتي وألجمني
من ألهم الحرف.. كيف الحرف يكتئب)
ثلاثة تساؤلات تحتاج إلى علامات استفهام ثلاث.. أما لماذا هذا التوجع والشكوى والأسئلة.. الأسئة عليها يجيب عنها جواب واحد وإن تشعبت فروعه «الخوف» عدم الثقة «اختفاء الارادة» التوجه المضاد للتنفس»
«رحلت» تلك هي إحدى محطات ديوانه.. من تكون؟ وكيف رحلت؟ ولماذا رحلت؟ هل رحل معها؟ هل عادت أم لم تعد؟ وعادة الرحيل ينكأ الجرح.. ويدمي القلب.. أما الدموع فإنها سهلة.
(رحلت فلا شيء يحلو لدي
إذا ما مضيت مضى كل شيء
تلاشى الهوى، فغدا كالسراب
ومات الكلام على شفتي)
ابداً لم يمت.. ها أنت تقول عنها كل شيء.. لماذا تكذب.. ألست القائل؟
(ذهبت فما ثم غيم وفي
وليس سوى الدمع في مقلتي
خبت شعلة الحب قبل الأوان
وشاب الزمان على راحتي
وحبي وحبك أمسى يبابا
وناحت بحاجات دربي علي
فمن لي يقصر ليلي الطويل؟
ومن لي يعيد وجودي إلي)
إذا كان كل هذا صوت موت لكلامك.. كيف يأتي صوت صحوتك إذاً؟ .. أنت بكل هذا الصمت الموجع تقرأ ما في نفسك وتضع له عنواناً يعجز عن مثله الكثيرون ممن يصرخون في واد لا قعر له.. ولا بئر ماء حب فيه يبل الشفاه..
«ماذا أريد؟».. سؤال يطرحه.. هو وحده الذي يملك الرد عليه..
(أتيت إلى الدنيا أبادر باكيا
فمن بدء خلقي كان بدء بكائيا
كأني أرى في صحوة الغيب شقوتي
مسطرة.. والحزن يرسم ذاتيا)
ومن تساؤلاته المصبوغة بالحيرة.. المطبوعة بالفلسفة.. يتطلع إلى أبيه متحدثاً عنه كيف يكدح ويكافح ويقنت عبر لياليه..
وكم هو ضعيف أمام سطوة الدهر الذي لا يقهر.. وعن فقره الذي دفنه تحت أحذية الشموخ.. وكيف رآه قبيل رحيله:
(وأقبل يوم كادح الظل مثقل
رأيت أبي يدنى إلى القبر ساجيا
عرفت جلال الموت وهو حقيقة
تغافلت عنها حقبة من زمانيا)
لست وحدك يا صديقي الغافل المغفل.. كلنا سادرون في شهوة الحياة، كما لو أننا مخلدون دون أن نترك للموت وما بعد الموت نصيبه.. وتلك مصيبة.. القصيدة ماتعة وممتعة وطويلة يتحدث فيها عن حياته هو أجتزئ منها هذه الأبيات:
(تنقلت بين الروض ألثم زهره
ورحت أعب الشهد عذباً وصافيا
فلم أدر إلا والصبا كاد ينقضي
وريعان عمري بالشجى بات ذاويا)
أخذنا من حزنه ما يكفي كوجبة إنسانية شاعرية كافية اعطت لنا السماح كي نتجاوز مقطوعته «رفيقة الأحزان» إلى ما بعدها.. وما بعدها شلالات حس سوداء تمطر همساً .. «همس الأهداب»
(عيناك واحة عشق لفها السحر
يغفو ويصحو على أهدابها القمر
في رمشها ألف العصفور أغنية
وبين أحداقها يستعذب السفر
ويسكن الليل والأحزان بؤبؤها
فإن ضحكت،أضاء الرمش والحور»
ماذا أبقيت للحسن من وصف؟ وللمفردات من توصيف؟ أجزم بأنك فارس رومانسية نفتقر إلى مثيله..
«حبيبتي أنت» هذه المرة قسمة شكوى مشتركة بين اثنين كلاهما أجهد.. واجتهد أن يصلا إلى وفاق واتفاق فهل ينجحان؟!
( ما أنت سالية ولا أنا سالي
حالي كحالك فاغفري وتعالي)
ويعطرها ببوحه.. كيف يراها.. كيف سافرت الأشواق إلى جوانحه.. وكيف افترش من أجلها بساط أحرفه نغماً كي تشير على وسادته انه معها يراها.. بل يكاد يلمسها بحسه إلا أن شيئاً ما كاد يحجب الرؤية ويلقي بغلالة سوداء أمام عينيه.
(وحدي كطفل حائر فيه زورق
بين العباب. وللرياح عويل
للشك يحرقني ويسري في دمي
للسهد يشعل حيرتي ويطيل)
ألفت نظر شاعرنا المجيد أن خطأ مطبعياً أثر على شطره الأول.. والسبب (فيه) والصحة (في) كي يستقيم ولا يعرج..
في رحلتي مع شاعرنا الصديق يحيى توفيق لمست أن أحزانه ترافقنا مع كل محطة.. وتنتظرنا عند كل محطة.. الشكوى هي الشكوى.
الحب الذي قد يأتي ولا يأتي.. الطيف الذي يلوح برهة ثم يختفي.. اشكالية ازلية يعاني منها العاشق في ترانيم شعره لا يملك الخلاص من قيودها.. ربما لأن طعم الحب المتوهج بحرارته يفضي إلى المرارة.. الحب الهادئ الأقل ضرراً، وشكوى لهذا السبب سنلوح لمحطة رائعة احزانه على بعد في انتظار محطة أخرى قد تكون الارادة فيها أقوى.. وجدتها كما قال ارخميدس..
كانت مع بلاده هذه المرة تحت عنوان «ابدا.. لا»
(لن تهوني يا بلادي.. لن تضامي
سوف نحيا العمر في عز نجاحي عن مجالك
نحن ان باغٍ عدا يوماً عليك
نبضنا سيف يلبي في يديك
سوف يلقانا العدا شما لديك
لن ينالوا فيك، لن يدنوا إليك
يا بلادي كلنا ملك يديك)
بارك الله فيك.. وفي صوت كل غيور يملك الانتماء والوفاء والولاء، والفداء.. هكذا يجب..
«صورة» لافتة للنظر ونحن بمحاذات المحطة.. عماذا تتحدث؟ وماذا تعني؟ إنسان على منضدته على مقربة منه هاتف وعلى ملامحه علامات انتظار..متى يرن الجرس؟
(وجلست في شوق أراقب هاتفي
فلعلها برنينه تشجيني
أرنو إليه بلهفة وتشوق
وخيالها يرتاح بين جفوني)
هل أن هاتفه رن على وقع مهاتفة من يهوى؟! هذا هو السؤال.
(واهم أطلب رقمها فيصدني
كبري ويدفعني إليه حنيني
حتى إذا ضج الحنين بمهجتي
قربته.. واناملي تغريني)
يبدو أنه حزم أمره كيف لا والهوى بجتاحه.. لقد أدار قرص الهاتف ولخيبته ألفى النمرة مشغولة:
(وتعبت من سماعتي فوضعتها
والشك بين ردائه يطويني)
على هذا النسق تتحدث الصورة.. وفجأة يرن هاتفه بصوت مفرد كان صوتها المتلعثم وهي تحييه.. أما هو بدافع من شكه راح يسألها من كان يشغل هاتفها؟ لترد عليه:
( قد كنت أطلبك النهار بطوله
والشك يشعل غيرتي وظنوني
ماذا جرى؟ هل هنت عندك؟ قلت لا
إن هان كل الناس.. لست تهوني)
صورة حوارية شعرية معبرة.. ولأن الفراق كاد يتحول في رحلة شاعرنا وفي مرحلة شاعريته إلى قاسم مشترك أعظم سوف نختصر مسافة الدرب حيث نتلمس في حيطة وشوق محطات الاتفاق حيث تهدأ الأعصاب، وتستريح العواطف..
«الليل» موحش كالفراق حين تطغى عليه ضبابية الانتظار وقصر عمر النهار.. انه يسلم إلى السهر المفضي إلى الضجر.. ندعه لشأنه.
ونستحث الخطى نحو رباعيته:
(تنفست في شعري وقد عشت أكبت
وصال يراعي بعد ما كان يصمت
وأنطقني اني رأيت بني أبي
أضاع الهوى أحلامهم وتشتتوا
أخاطب حسا في قلوب تبلدت
وهل تورق الأغصان والجذع ميت؟)
أبدا لا تورق الاشجار الميتة.. ولا تشرق حياة والأقلام والأفهام والأقوام في سباتهم.. بالكفاح والذود عن الارض والعرض تتحرر إرادة الانسان.. وتعتز الاوطان.. وينتفض الوجدان الشعري مشيداً بشهيده:
(أعيدي إلى روحي الحماس أعيدي
وفكي قيودي، قد مللت قيودي
خذي النوم من عيني وردي عزيمتي
فقد طال في حضن الظلام رقودي)
الشهيدة لم تستشر أحداً.. ولم تطلب من أحد فك قيودها، لأنها تمتلك ارادة الحياة التي بها تدافع وتدفع عن وطنها أو زار أوطار المحتل المتوحش.. ولأن عالمنا المادي محكوم بعلاقاته وصداقاته المرهونة بالمصالح أكثر من المبادئ كما هي سياسة عالمنا اليوم فقد أفرغ شاعرنا لهذا الخلل في بنيتنا الاجتماعية إحدى رباعياته:
( وكنت وقد واساني الدهر مقبلا
فلما جفاني الدهر جافيت كالدهر
تواصلني والسعد يضحك في فمي
فإن ضاق في عيشي تماديت في هجري
أجاهد كي تحيا وسعدك أشتهي
وترتع في خيري وشرك يستشري
فحتى متى أصحو وقلبك حاقد
تروح وتغدو لا تكف عن الغدر)
وعن الموت والحياة.. والمسير..والمصير يرسم لنا لوحة تأملية مغرقة في يقينيتها:
( أيها الساري إلى أين المسير؟
لست تدري البدء! هل تدري المصير؟
كلنا نخطو إلى الموت فما
يدع الموت صغيرا.. أو كبير
رب لاهٍ قد دنا من حتفه
كي يلهو من الى الموت يسير
انما تلهو بنا آمالنا
ثم يطويها ويطوينا الحفير)
بين تأملات «المعري» وتساؤلات «إيليا أبو ماضي» اختار شاعرنا رؤية وسطية تأملية عقلانية الملامح والتصور..
وفي رباعية أخرى يستغرق في شعوره وشعره ملامح الحياة بكل أوجاعها متحلياً بصبره.. متشحا برداء ايمانه إلى من بيده كل شيء..
(في كل يوم دمعة تترقرق
قلب يئن، ومهجة تتمزق
نمسي ونصبح والزمان يريبنا
فإلى متى هذا الشقاء المطبق؟)
وتمتد به شكوى الحزن الذي يطحنه.. والجرح النازف من دمه.. والدموع المنسابة من مآقيه متسائلاً «من المشفق؟»
ليجده دون تردد:
(أنت الرحيم، وأنت وحدك سيدي
إن عزَّ من يأسو ترق وترفق
ولعل أنسب ما أختتم به هذه الرحلة الممتعة الشيقة مع شاعرنا يحيى توفيق تلك الوقفة الروحية الإيمانية التي تفيض ضراعة وتبتلا:
(وهتفت أدعو من فؤاد خاشع
ربي، أغثنا فالبلاء جسيم
فَسِرت بروحي هدأة وسكينة
ومشت بقلبي راحة ونعيم
ربي خلقت العالمين لغاية
ومن الخلائق أعوج وقويم
فالطف بخلقك يا إلهي إنهم
من دون لطفك جاهل وعقيم)
شكرا لشاعرنا الذي أمتعنا بشعره.. وأشبعنا من فيض شعوره عبر الرحلة الجميلة معه رغم ما اعتورها من صد وهجر وهجيرة.. كانت رحلة خيال خصب اجاد رسم الكلمات وتشكيل الصور.


الرياض : ص. ب 231185
الرمز 11321
فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
وراقيات
مداخلات
الملف
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved