Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
فضاءات
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 

رعاة العزلة..
شهادة في شعر الثمانينيات 3 - 3
سعد البازعي

 

 

(أشرت في الجزء الثاني من هذه الورقة إلى بعض أوجه المقارنة بين قصيدتين، الأولى للشاعر السعودي محمد عبيد الحربي والثانية للأردني أمجد ناصر من حيث هما تجربتان في كتابة قصيدة النثر). وأتابع هنا فأقول إن مما لا يصعب تبينه من قصيدتي الشاعرين، (دمنا اليومي) للحربي، و(رعاة العزلة) لناصر، هو أن الإشكالية الرئيسة فيهما هي إشكالية التعبير أو الوصول إلى المتلقي، الإشكالية التي عرفها الشعر مذ كان، لكن الشاعر الحديث عاشها بشكل حاد، أو ربما أكثر حدة من غيره في فترات سابقة.

وكان من نتائج هذا الاحتدام في إشكالية التعبير أو الإبانة أن تحول النقد من دوره التقليدي في التقويم إلى دور المفسر الذي يكاد يحاصره، حتى صار قصارى جهد الناقد أن يجد ما اعتدنا أن نسميه مفاتيح النص.

ولعل قصيدة الحربي نموذج واضح لنص يتخذ صيغة اللغز. فمنذ بداية القصيدة يطرح الشاعر دلالات مختلفة للدم وكأنه يختبر قدرة المتلقي على إدراك المقصود لتأتي الصياغة كصياغة الألغاز في الالتفاف حول الموضوع دون ملامسة مباشرة.

وبالطبع فلم يكن يرعب الشاعر أكثر من أن يتهم بالمباشرة، أو الوضوح، فذلك هو السقوط بعينه. ولعل دارسي الشعر الحديث يتذكرون أن الأستاذ في هذا التوجه هو سعدي يوسف، فهو رائد لتيار رئيس من تيارات الشعر العربي الحديث قد لا نجد أحداً يخوضه غماره الصعبة غير النقاد والشعراء الآخرين.

يقول رائد تيار رئيس آخر، تيار ليس بالسهل أيضاً، هو محمود درويش، من قصيدة ضمن مجموعته (سرير الغريبة): (أحب من الشعر عفوية النثر والصورة الخافية). وليس في مفارقته الجميلة سوى تلك المعادلة الصعبة التي جهد خلفها شعراء كثيرون: كيف تأتي العفوية دون أن تجلب معها الوضوح الذي يمجه الشعراء الكبار؟ كيف يمكن للشعر أن يكون شعراً ونثراً في الوقت نفسه؟ أن يحقق سهولة النثر دون أن يلتحق بالمباشرة والخطابية؟ دون أن يسقط في عادية الكلام؟ ولن يختلف أحد في أن درويش، شأن سعدي يوسف، وغيرهما استطاعوا في أماكن كثيرة من أعمالهم أن يحققوا المعادلة، لكن من سيقول إن أياً من أولئك لم يقل كلاماً يحتاج إلى الكثير من مهارات التأويل والقدرة على فك مغاليق المجازات المتداخلة، كما في قول درويش: (نسير إلى وطن ليس من لحمنا / ليس من عظمنا شجر الكستنا/ وليست حجارته ماعزاً في نشيد الجبال/ وليست عيون الحصا سوسنا). قد لا يكون هذا أصعب ما لدى درويش لكنه نموذج لنص سيرعوي عنه القارئ غير المدرب دربة خاصة، ولن أقول القارئ العادي.

في وضع مشابه سيجد القارئ نفسه وهو يحاول فك مغاليق قصيدة محمد الثبيتي (التضاريس)، وهي إحدى أشهر قصائد الشعر السعودي الحديثة، ومن أبرز ما أفرزته مرحلة الثمانينات.

وهنا أود أن أنقل ما كتبته في قراءة نقدية كانت من بواكير نشاطي في قراءة شعراء الثمانينات.

فقد تناولت قصيدة (التضاريس) في قراءة أظنها من أوائل القراءات النقدية لتلك القصيدة نشرت سنة 1985 وتضمنت عرضاً تحليلياً لبعض جوانب القصيدة لا أشك الآن إلا أنني أرهقت نفسي والقارئ معي - على افتراض أنه كان هناك قارئ - في استعراض تأويلي وحفر جمالي في نص كان وما يزال غاية في الصعوبة، بل إني أشك إن كان الشاعر نفسه لديه تفسير منطقي لكثير مما قاله هو.

في ختام القراءة المشار إليها عرضت ثلاثة أسباب لعدم التوسع في قراءة القصيدة، منها كون التفاصيل مما يمكن الاستغناء عنه، ومنها ضيق الحيز عن التعرض لمسائل أخرى وإن كانت مهمة، ثم سبب ثالث عرضته (وأرجو أن يغفر لي اقتباسي لكلام سبق أن نشرته) قائلاً إن ترك بعض الجوانب قد يعود إلى: (أن تكون قد استعصت على محاولاتي، والأمثلة على الحالة الأخيرة عديدة، ولكن من أبرزها ما يطالعنا في بداية (المغني) (أحد مقاطع القصيدة)، فحتى لغة الاحتمالات التي نفترض قيام قصيدة حديثة ك (التضاريس) عليها لم تسعفني في محاولة تصور ما يوحي به قوله (ابتداء من الشيب حتى هديل الأباريق) ولا في تصور (اللغة الحجرية) و (عروق الزجاجة).

لم يكن سهلاً أن أقول ما قلته آنذاك، أن أعترف بعي في الفهم، وأنا القادم إلى ساحة القراءة النقدية الحداثية بثقة واعتزاز، لولا ما أشرت إليه قبل قليل من اتكاء على تحصيل أكاديمي كنت أجزم أنه سيعزز من موقعي، بالإضافة إلى سبب آخر قد يراه البعض منطوياً على بعض الادعاء، هو أنني كنت أحاول أن أؤصل لموقف نقدي كنت أشعر أن الكثيرين يفضلون تفاديه، وهو أن نقول لما استغلق على الفهم أنه مستغلق وأن نرفض إبقاء الكرة دائماً في ملعب القارئ بوصفه عاجزاً عن الفهم، أي على طريقة أبي تمام. فثمة أحيان يكون القارئ فيها ذكياً ومثقفاً، أحيان يكون فيها الشاعر عاجزاً عن الوصول إلى ذلك القارئ، عاجز عن أن يقول ما يفهم.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5135» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة