Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
فضاءات
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 
عن الثقافة والمثقفين: أوجه وأدوار 2-2
ثائر ديب

 

 

بيد أنّ هذه العولمة ذاتها، من جهة ثانية، توحّد العالم على أساس من التمايز بين مناطقه المتقدمة ومناطقه المتخلفة، أو بين مراكزه وأطرافه، على نحو يجعل اتجاه التدفقات السابقة اتجاهاً ظالماً واستغلالياً وليس نتاجاً لتفاعل المحلي والعالمي ذلك التفاعل المُخصب الندّيّ. وبعبارة أخرى، فإنّ العولمة السائدة الآن لا تنطوي على تزامن ثقافي على الرغم من إقامتها الأساس لثقافة عالمية. ففي حين يعيش الجميع داخل الحداثة، إلا أن بعضهم وحسب هم الذين يعيشون معها، في حين يعيش بعضهم الآخر بخلافها وإن يكن ليس خارجها. وليس هذا باللعب على الألفاظ بقدر ما هو إشارة معقدة إلى واقع معقد. والحال أن هذه الآلية المعقدة الموحدة والمتباينة في آن معاً، هي الإطار الذي يفسّر ما نواجهه من ظواهر ثقافية جديدة. ففي حين تجعل العولمة من الصعب فهم ما يحدث في مجتمع محدد دون الالتزام بتقديم تصوّر شامل، وفي حين تجعل العولمة العالم هو وحدة التحليل الاجتماعي والثقافي وتضع الهوية الثقافية القائمة على الدولة الوطنية تحت ضغط كبير وتعمل باتجاه تفكيك العلاقة بين الهوية والمحلّة أو المنطقة أو الدولة، نجد أنّ هذه العولمة ذاتها، بآثارها هذه، تولّد ردود فعل تسعى إلى تعريف الهوية تعريفاً ضيقاً وخطيراً تحدوه نزعة عنصرية عدوانية تكشف عن نوع من الارتداد الدفاعي. وهذا ما نجده في كلّ من المركز والأطراف، حيث يُضاف إليه في هذا الأخير ذلك الأثر الذي يولّده عدوان المركز، ما يخلق نزوعاً قوياً إلى التحصّن بالماضي والإيواء إلى التراث والأصول والانغلاق على هويات خاصة مضادة.

إننا، إذاً، حيال عدد من الأصوات، لكنها تصدر من المكان نفسه لا من أماكن متعددة. صوت أول، غربيّ، يدعو إلى العودة مرة أخرى إلى النزعة القومية والهوية الثقافية القومية بطريقة دفاعية وعدوانية إلى حدّ كبير. وصوت ثانٍ، غربيّ أيضاً، هو صوت العولمة السائدة الذي يفهم النظام العالمي الجديد على أنه فرض قيم مجتمعات محددة على بقية الدنيا وامتصاص بقية القيم أو تنحيتها تماماً، ما يفرض تجانساً قسرياً وأحادياً مقيتاً. وصوت ثالث، يأتي من العالم الفقير، هو صوت يدعو إلى العودة إلى المحلي أو القومي أو الديني وإلى الجذور في مواجهة عالم قوى العولمة الغامضة، ذلك العالم المجهول، واللاشخصي الذي يحطم هويات الأماكن المألوفة ويمتصها داخل تدفقاته الكثيفة.

بيد أنّ ارتفاع هذه الأصوات وما يرتبط به من فورة في أهمية الثقافة وبروز وجهها المؤذي لا ينبغي أن يحجب عن السمع صوتاً آخر هو صوت يجمع بين الاعتراف بأنه لم يعد ثمة مجال لعودة إلى الوراء، إلى ما قبل العولمة، وأن هذه العولمة تقتضي، إذاً، ردّاً عالميّ الأبعاد يكون نوعاً من المشروع المستقبلي وليس إيواءً إلى مغاور الماضي، وبين القول إن العولمة السائدة الآن ليست الوحيدة الممكنة، دافعاً باتجاه عولمة لها أساسها الأخلاقي الذي ينبع من أنّ الإنسان، بعامّة، جدير بالحرية والسعادة والعدالة... لأنه إنسان بكلّ بساطة. فالطبيعة البشرية المشتركة، والعالم الواحد المشترك يقتضيان أن تكون لنا مطالب أخلاقية وثقافية وسياسية بعضنا تجاه بعضنا الآخر. فمثل هذه المسائل أهمّ وأخطر بكثير من أن تُترك لرحمة الأقوى، أو لرحمة ما هو محلي أو ثقافي محض، أو لرحمة العُرف والعادة والتقليد والتراث ونزوات الأسياد والطغاة الذين يُماهون بين ذواتهم والأوطان.

وإذا ما كان من المفهوم نوعاً ما أن تتمسّك الشعوب والأقوام المغلوبة والمنهوبة بأفكار الخصوصية وأن ترتاب بعالمية معينة تحاول التهام التنوع والتعدد وتحول العالم إلى مكان موحش في نمطيته الأحادية بدل أن تعمل على تعميق ما فيه من تميّز في إطار كونيته وما فيه من تعدد في إطار وحدته، فإنّ من الغريب وغير المفهوم ما تبديه تلك التيارات المندرجة عملياً في إطار العولمة من ارتياب وشكّ يمضيان إلى أبعد من ارتياب الشعوب ويصلان إلى درجة يجعلان فيها من الخصوصية وجه العملة الفاسد لكونية أو عالمية سائدة وفاسدة، فحين ترى هذه التيارات والقوى أنّ القيم الأخلاقية والحقوقية والديمقراطية لا تتجسّد إلا في تقاليد محلية أو خصوصية، وأنّ لا قوة لهذه القيم تتعدّى ذلك، فإنها تحوّل الأخلاق إلى ضرب من المحلية الضيقة أو الوطنية المزعومة التي تتطابق مع مصالحها الخاصة في حقيقة الأمر والتي عادة ما تكون مصالح معادية لمصالح مجتمعاتها.

وإذا ما كانت العالمية السائدة الآن عالمية قاصرة هي عالمية المجتمعات الأوربية والأميركية التي تحاول أن تطبّق مفهومها الخاص عن الإنسانية على كل أحد آخر مما يمكن الاعتراض عليه فعلاً، إلا أنّه ليس من النباهة في شيء أن نتصور أنّ هذا هو كل ما يمكن للعالمية أن تعنيه، فما بالك بأن نتصور إمكانية العودة إلى الوراء.

وبعبارة أخرى، فإنّ الأمر ليس أمر العالمية أو عدمها بل أمر صراع بين تصوّرات مختلفة للعالمية ذاتها. وإذا ما كان هنالك نوع رديء من العالمية، فإنّ هنالك نوعاً رديئاً من الخصوصية أيضاً. ولذا فإنّ الأمر ليس أيضاً أمر الخصوصية أو عدمها بل أمر صراع بين مفاهيم مختلفة للخصوصية ذاتها. ولا شكّ أنّ تصوراً نظيفاً وإنسانياً للكونية التي لا توجد إلا مخصوصة وللخصوصية التي ليست سوى واحد من تجسيدات ما هو كوني، كفيل بأن يضعنا

مباشرة إزاء ضرورة عدم التفكير بالعولمة على أنها عملية هادئة أو مسالمة تحدث في نهاية التاريخ، فهي عمل يتم على أرضية ثقافية شاملة لكنها متناقضة تماماً، مما يفسح المجال للمقاومة وللمستقبل والتاريخ. ولا شك أيضاً أنّ مثل هذا التصور كفيل بأن يضعنا إزاء ضرورة إبراز وجه إنساني شامل للثقافة، وجه يبدي عن قيمه الأخلاقية الشاملة التي تسري على الجميع مما يعيد إلى الأذهان صورة أولئك المثقفين الذين وقفوا بشجاعة دفاعاً عن قضايا بعيدة كل البعد عن بلدانهم ومناطقهم، تلك الصورة التي خبت في العقود الأخيرة مع بروز صورة المثقف الغربي الذي لا يتضامن سوى مع سكان الشارع الذي يقطن فيه أو صورة المثقف المحلي الذي يعادي كل فكرة عمومية وشاملة متهماً إياها بأنها مستوردة وخارجية في الوقت الذي يستهلك فيه أسوأ فضلات العولمة المادية والثقافية.

ولعلّ التركيز على الطبيعة البشرية المشتركة والعالم المشترك أن يذكّرنا بأنّ الثقافة قد غدت اليوم أبعد عن التواضع وأدنى إلى الغطرسة، وأنّ الوقت قد حان - ونحن نعترف بأهميتها - لأن نعيدها إلى مكانها المناسب وسياقها المستنير.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة