Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
قضايا
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 

نازك الملائكة بين غذاميين
عبدالله السمطي

 

 

كوليرا الفتح الشعري

يعتبر الدكتور الغذامي في (تأنيث القصيدة) أن الفتح الشعري الحديث تم على يد امرأة: (ففي عام 1947 وقعت الكوليرا في مصر، وهناك في بغداد وقعت (كوليرا) أخرى. إحداهما مرض قاتل وموت، والأخرى انتفاضة ومشروع إحياء.. والكل يعرف حكاية قصيدة (الكوليرا) لنازك الملائكة وعلاقتها بوباء الكوليرا الذي أصاب مصر عام 1947 ثم ما جرى من جدل طويل حول انطلاقة الشعر الحر وبدايته وريادته، مما هو معروف القول والبحث) ص 11

فكيف تصبح قصيدة (الكوليرا) فتحا شعريا، في حين أن الدكتور الغذامي يعدها مجرد احتذاء للموشحات والبند وتقليد بعض النماذج التي جاء بها ميخائيل نعيمة، والمازني، وباكثير، وما كان ينشر في الصحف العراقية في العقود الأولى من القرن العشرين الميلادي؟ بحسب ما يؤكد في كتابه (الصوت القديم الجديد) الذي تناول فيه بدايات التجربة الملائكية الشعرية والنقدية في الفصل الأول بعنوان: (الشعر الحر والموقف النقدي حول آراء نازك الملائكة) (ص.ص 9- 78).

وقد استهل الدكتور عبدالله الغذامي هذا الفصل بالتعريف الموجز بأشكال الشعر العربي: الأرجوزة، ثم القصيدة العمودية، والموشحة، والشعر المرسل، والشعر الحر، ثم أخيرا الشعر المنثور وقصيدة النثر.

وفي عنوان (الأولية في كتابة الشعر الحر) بدأ الدكتور الغذامي في استحضار آراء نازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) (ص 18) حيث يقول:

(تؤكد نازك الملائكة في كتابها(قضايا الشعر المعاصر) وفي جميع كتاباتها الأخرى أنها هي - لا سواها - أول من بدأ كتابة الشعر الحر، وأن البداية كانت قصيدتها (الكوليرا) المكتوبة والمنشورة في سنة 1947م.. وتتعمد نازك الملائكة حصر قضية الأولية بينها وبين السياب في قصيدته (هل كان حبا) متجاهلة كل ما سبقهما من محاولات وتجارب، وتثبت في كتابها أنها قد سبقت السياب بمدة لا تزيد عن نصف شهر) ص 19

كما يذكر أيضا: (تلجأ نازك الملائكة إلى وسيلة أخرى لإثبات أوليتها المطلقة في كتابة الشعر الحر فتنفي تأثرها بأي نمط شعري سابق لها، بأن تزعم عدم معرفتها بتلك الأنماط الشعرية، فلا أثر للموشحات عليها (لأن المشهور المحفوظ منها يقوم على أساس المقطوعة ويحافظ على طول ثابت للأشطر) أما البند فلم تعلم به نازك إلا سنة 1953 - على زعمها - وتعطي نفسها أعذارا تبرر بها جهلها لهذا الفن الشعري السائد في بلدها إلا أنها تبخل بأعذارها على شاعر عراقي آخر هو الرصافي) ص 19

ويشير إلى دعوى نازك عدم معرفتها بالتجارب السابقة قائلا: (تنكر نازك الملائكة أيضا معرفتها بتجارب أحمد زكي أبو شادي في الشعر الحر، وتحدد مرة أخرى زمن اطلاعها على دعوة أبي شادي وتقول إن ذلك كان في سنة 1963) ص 20

ويناقش الغذامي هذه الآراء الملائكية مفندا مزاعم نازك:

(وكأننا بنازك تصف نفسها بالجهل لتدعي العبقرية. وإلا ماذا كان يضيرها لو أعطت الموشحات حقها في التأثير في نفوس شعراء العربية، وإنه لأمر حتمي أن يكون للموشح أثر بالغ على حركات التجديد في الشعر، والموشح أبرزها وأكثرها عراقة في التراث العربي وفي الذهن العربي، وسواء أنكرت نازك أو اعترفت فأثر الموشحات حقيقة أدبية ونفسية لا يمكن إنكارها، أما إنكارها العلم بالبند فأمر نعجب له ولا نكاد نصدقه ليس استنادا إلى حجتها على الرصافي فقط ولكن تصديقا لما تكرره هي عن نفسها من أنها قوية الاهتمام بالشعر العربي وأنها كثيرة القراءة، أما ادعاء الأسبقية بإنكارها المعرفة بتجارب أبي شادي في الشعر الحر فهذا أمر نناقشه من وجهتين إحداهما تاريخية والأخرى فنية) ص 20 ويقدم الغذامي نماذج شعرية للوجهتين مما كتبه الدكتور يوسف عز الدين عن نشأة الشعر الحر في العراق، متتبعا ما كان قد نشر منه في الصحف العراقية للفترة ما بين 1911-1945. (ص 20) وبعد أن يستعرض الغذامي بعض النماذج من الشعر الحر السابق على نازك الملائكة لدى المازني، وأبي شادي، وباكثير وغيرهم، يتساءل: (فهل لنازك أن تأتي بعد ذلك وتنكر أن تكون قد رأت شيئا أو سمعت بشيء من هذه المحاولات..؟ وهي شابة جامعية في كلية من أوائل الكليات في العالم العربي يندر أن تجد طالبا من طلابها مغمض العينين محجوب الفكر عن مجلات بلده ووطنه العربي فلا يطالعها ويتابع ما ينشر فيها). ويتابع الغذامي متعجبا ومستنكرا من ادعاء نازك الملائكة بأوليتها في كتابة الشعر الحر: (ولئن فات نازك الاطلاع على مجلات العراق والبلاد العربية - وهي استحالة - فهل فاتها الاطلاع على الكتب المنشورة كديوان أبي شادي، ومسرحيات باكثير؟ هذه فروض ليس في وسعنا الأخذ بها وإلا لأصبحت نازك رائدة جاهلة لا تعلم بما يدور حولها من قضايا أدبية خطيرة وهامة لها مساس مباشر بالشعر العربي وبمستقبله، وكيف بها إذن ترود مستقبلا وهي تجهل الحاضر؟. وكيف تعلم بأزمة الشعر العربي وهي تجهل حال هذا الشعر التي يعيشها؟). ص 30

والأخطر في هذا الموضوع أن الغذامي يؤكد على تأثر نازك الملائكة بعلي أحمد باكثير في كتابة الشعر الحر، حيث يذكر: (والذي يعنينا هنا بالدرجة الأولى هي نازك الملائكة، وقصيدتها (الكوليرا) التي اعتمدت لها وزن: فاعلن - المتدارك، وهو ما سبقها إليه علي أحمد باكثير، وهذا قد يكون دليل تأثر فني بتجارب باكثير، ويزيد من تأكيد ذلك في نفوسنا أن نازك نسبت لنفسها ابتكار تفعيلة جديدة في بحر الخبب هي - فاعل.. وهذا ابتكار قد سبقها إليه باكثير في مسرحيته المترجمة (روميو وجولييت).. وهذا تشابه كامل بين نازك وباكثير في استخدام البحر نفسه والوقوع في استخدام تفعيلة جديدة يجعل التجربتين متلاحمتين مما يقوم دليلا على تشبع نازك بهذه المحاولة وانعكاسا لا شعوريا على عملها نفسه) (ص.ص 32-33)

تحطيم الأنوثة الملائكية

في (الصوت القديم الجديد) لم يترك الدكتور الغذامي منفذا لنازك الملائكة لإثبات حضورها الأنثوي وسط الثقافة الذكورية أو (شغل الرجاجيل) - بتعبير الدكتور الغذامي - لقد قام بتحطيم الأنوثة الملائكية تماما، فأنكر عليها الريادة، ورفادة الشعر الحر بشكل جديد، وسقاية حقول الفن الشعري بينابيع أنثوية، واتفق مع كل النقاد (الرجاجيل) في تحطيم النموذج الملائكي، ففي دراسته الأولى ينسف الغذامي (الناقد الأدبي) مشروع نازك الملائكة، ويسفه من آرائها الواردة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر)، خاصة فيما كتبه الغذامي في الصفحات (44- 69) ويتجلى ذلك في هذه الأمثلة:

1- في تفريقها بين البحور الصافية والمركبة يؤكد الدكتور الغذامي على أن باكثير كان أسبق منها في تحديد ذلك، حيث يجزم بذلك قائلا:

- (ولا يفوتنا أن نذكر هنا ما سبق الحديث عنه من أن علي أحمد باكثير قد سبق نازك الملائكة إلى تحديد أنواع البحور التي يمكن استعمالها في الشعر الحر.. وذلك سنة 1940) ص 44

2- تعليقه على تحذيرها من (الحرية البراقة التي تمنحها الأوزان للشعر) بقوله: (وكلام نازك هذا لا يعدو أن يكون ملاحظة تعليمية لشاعر مبتدئ) ص 45

3- (كيف بنازك تعود بنا إلى قيود ما فتئنا نحاول الخلاص منها حتى في الشعر العمودي) ص 47

4- يصفها بالتناقض والتضارب والتعارض في آرائها. (ص.ص 48-49)

5- يعلق في نهاية دراسته على قصيدة (للصلاة والثورة) لنازك الملائكة بقوله:

(إن نازك بكتابتها لقصيدة كهذه وقولها إنها آخر قصيدة حرة لها، وذلك بعد كتابتها بسبع سنين، لتكتب بيديها نهاية مؤسفة لشعرها الحر الذي نراه في دواوينها السابقة وبالأخص (شظايا ورماد) و(قرارة الموجة)، وهذه انتكاسة منها وعقم فني، أين هو من قصيدة (الخيط المشدود في شجرة السرو) مثلا. إن قصية كقصيدتها عن القدس لأشبه شيء بالمحاولات الأولى في الشعر الحر، وهي لا ترتفع عن مستوى قصيدة باكثير عن سوريا، ولا ترقى أبدا إلى مستوى قصيدة (الكوليرا) لنازك، وهذه نهاية مؤسفة لشعر رائدة من أبرز رواد الشعر الحر ومن أبلغهم أثرا) ص 71

فهل بعد هذه الآراء الغذامية التي قوضت المشروع الملائكي عند قراءة الريادة والأولية في الشعر الحر، أو عند طرح القضايا النقدية في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) يمكن تقبل هذه التصورات الجديدة للغذامي التي تناقض تماما ما جاء به في كتابه الأول؟ وهل النقد الثقافي يدعونا لمناقضة آرائنا وأفكارنا والتخلي عنها من أجل إثبات أنوثة القصيدة وإنكار فحولتها؟.

غذامي ضد الغذامي

مع أن (غذامي النقد الأدبي)، قد تبنى كل الآراء النقدية التي تنكر الأولية على نازك في كتابة الشعر الحر، إلا أنه حين أضحى (غذامي النقد الثقافي) تنكر لهذه الآراء جملة وتفصيلا، ووصف هذه الآراء بأنها:(بعض أدوات الفحولة في الدفاع عن ثقافة الفحول)!!.. ففي دراسته التي عنونها هذه المرة ب(تأنيث القصيدة: قصيدة التفعيلة بوصفها علامة على الأنثوية الشعرية) يذكر: (كان أول رد فعل مضاد وأبرزه هو إنكار الأولية على نازك، وقد كتبت بحوثا كثيرة ودراسات متعددة، كتبها رجال فحول ينكرون عليها الأولية، وينفون عنها الريادة، ويؤكدون أن قصيدة الكوليرا لم تكن القصيدة الأولى في اختراق نظام عمود الشعر وعروضه المذكر، وينسبون ذلك إلى رجال سابقين عليها أو معاصرين لها) (ص 13). ومع أن الدكتور عبدالله الغذامي أحد هؤلاء الفحول إلا أنه لم يشر إلى ذلك، وكأنه لم يكتب ما كتبه عن نازك قبلا.

كذلك رغم تبنيه - إلى حد الإعجاب - آراء س. موريه حول نازك الملائكة حيث يستشهد كثيرا بآرائه في صفحات عدة من كتابه (الصفحات 15،34، 35 مثلا) وتنويهه بأهمية دراسته في مقدمة كتابه (الصوت القديم الجديد)، رغم ذلك فإنه يذمه في كتابه (تأنيث القصيدة) حين يصف موريه أن قصيدة (الكوليرا) تندرج تحت نوع من أنواع (الموشحات) حيث يعلق الغذامي على هذا الرأي من موريه بقوله: (وهذه حيلة خبيثة قال بها أحد المستشرقين مانحا خدماته للدفاع عن فحولة الضاد، ولو نجحت هذه الحيلة فستكون الريادة حينئذ من نصيب أحد الفحول، وتحديدا بدر شاكر السياب وسيجري طرد المرأة عن هذا الشرف المذكور) ص 14 ومن أعجب الأمور أن يناقض الناقد نفسه، ويصف آراءه الأولى ب(الحيلة) و(الدعوى) وهو ما صنعه الدكتور الغذامي في (تأنيث القصيدة) حين عزا لنفسه رأيا سلبيا في قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة حين يقول في النقطة رقم _ ج (ص 14 من كتابه تأنيث القصيدة): (تأتي الحيلة الثالثة في الدعوى التي تقول: إن قصيدة نازك الملائكة (الكوليرا) ليست سوى تغيير عروضي، وهذا أمر لا يعبأ به، والأهم هو التغيير الفني، وهذا في زعمهم لم يحدث إلا بعد سنة من نشر الكوليرا أي في عام 1948 في قصائد مثل (في السوق القديم) للسياب، و(الخيط المشدود لشجرة السرو) و(الأفعوان) لنازك) . والذي ذكر هذا الرأي، ليس ناقدا بعيدا أو قصيا أو راحلا، بل هو الناقد الدكتور عبدالله الغذامي نفسه في كتابه (الصوت القديم الجديد) حيث ينفي تماما أن تكون قصيدة (الكوليرا) هي بداية الشعر الحر أو الشعر الحديث، ويتجلى هذا في التالي:

- يصل الغذامي عبر استقرائه لقصائد نازك الأولى إلى هذا الحكم القاطع: (وباستقراء ديوان نازك (شظايا ورماد) وما ذيل بكل قصيدة خارجة عن النظام العمودي أو الشعر المرسل في 1948 إذ ليس من ضمن القصائد المكتوبة في عام 47 أي قصيدة خارجة عن النظام العمودي أو الشعر المرسل ذي المقطوعات سوى قصيدة الكوليرا، ويأتي في سنة 48 قصائد مثل (الأفعوان) و(نهاية السلم) والقصيدة البارعة (الخيط المشدود إلى شجرة السرو) وهذه القصائد شعر حر لا على نظام نازك في الكوليرا، ولكن على المفهوم الذي تعارفنا عليه من خلال ما قدمناه من تعريف في هذا البحث. وبهذا تكون بداية نازك الملائكة مع الشعر الحر في عام ثمانية وأربعين لا سبعة وأربعين كما تزعم). ص 37

- ويقول الغذامي معتبرا أن قصيدة (الخيط المشدود إلى شجرة السرو) هي البداية الحقيقية لنازك الملائكة في مجال الشعر الحر وليست قصيدة (الكوليرا): (ويظل التجريب حتى تأتينا قصائد مثل (الخيط المشدود إلى شجرة السرو) لنازك الملائكة عام 1948 وقصيدة (في السوق القديم) لبدر شاكر السياب سنة 1948 لتجعل هاتان القصيدتان من هذه السنة سنة انطلاقة الشعر الحر ليكون حركة فنية وفكرية في الشعر العربي وتتابع القصائد الحرة المبدعة الرائدة بعد ذلك من هذين الشاعرين ومن شعراء آخرين ساروا مسارهم في العراق ومصر وفي لبنان وغيرها من بلاد العرب). ص 40

- ويؤكد الغذامي: (فالأولية ليست لنازك حتما. أما الريادة فهي بلا شك واحدة من كوكبة من الشعراء حملوا راية هذه الحركة في بدايتها بدوافع من اطلاعها على الآداب الأوروبية ودراسة أحدث النظريات في الفلسفة والفن وعلم النفس). ص 40

- وينفي الغذامي مرة أخرى كون نازك أول من كتبت الشعر الحر، حيث يرى أن (قصيدة نازك الملائكة - الكوليرا - لم تقم على نظام الشعر الحر في اعتماد الوزن سواء ما سبقها من محاولات أو ما لحقها) ص 34. ويصل الغذامي إلى هذا التأكيد: (وبهذا تخرج قصيدة (الكوليرا) من الشعر الحر وصاحبتها مسبوقة بميخائيل نعيمة، ونسيب عريضة، والجميع يأخذون بنظام الموشحات في هندسة القصيدة وتوزيع التفعيلات والروي). ص 36-37

والسؤال المثير هنا: ما الذي تغير في قصيدة (الكوليرا) لنازك الملائكة فجعلها في كتاب الغذامي (تأنيث القصيدة والقارئ المختلف) تمثل الأولية والريادة في الشعر الحديث، وتمثل (انتفاضة ومشروع إحياء) وتحطم (أهم رموز الفحولة وأبرز علامات الذكورة وهو عمود الشعر) بعد أن كانت لا تمثل شيئا لدى الغذامي في كتابه (الصوت القديم الجديد؟).

هل تحولت بعصا (النقد الثقافي) السحرية إلى نص آخر، لم يتأثر بباكثير عروضيا، ولم يتأثر بالبند والموشحات وبميخائيل نعيمة والمازني، ولم يكن يمثل سوى تغيير عروضي، ولم تكن صاحبته سوى رائدة من جملة رواد الشعر الحر؟؟!.. أم أن (النقد الثقافي) لا يعترف بالماضي النقدي والآراء النقدية التي لم تبتعد سوى 13 عاما بين الكتاب الأول والكتاب الثاني؟..

هل هذا التناقض في آراء الدكتور الغذامي يمحو كل ما جاء به في بحثه (تأنيث القصيدة) الذي يعتمد جوهريا على فكرة (كسر عمود الفحولة على يد أنثى)؟.

تأنيث باكثير - تذكير نازك

يواصل الدكتور عبدالله الغذامي بمهارة لغوية، وجسارة نقدية التعفية على آرائه الأولى، وإنني كقارئ على الأقل لن أجسر الآن على مناقشة آراء الشاعرة الرائدة نازك الملائكة حول الشعر الحر فهذه مسألة قتلت بحثا كما يقال، ولن أجسر كذلك على مناقشة آراء الدكتور الغذامي حول تأنيث القصيدة الآن تاركا ذلك لمقام آخر، وتتبدى آثار هذه التعفية، في امتداح فكرة التفريق بين (البحور الصافية) (الأنثوية) التي تلائم الشعر الحر و(البحور المركبة) التي قالت بها نازك الملائكة في (قضايا الشعر المعاصر)، وهي الفكرة التي عزاها الدكتور الغذامي في كتابه (الصوت القديم الجديد) إلى باكثير، حيث يقول الغذامي: (ولا يفوتنا أن نذكر هنا ما سبق الحديث عنه من أن علي أحمد باكثير قد سبق نازك الملائكة إلى تحديد أنواع البحور التي يمكن استعمالها في الشعر الحر.. وذلك سنة 1940) ص 44 فهل تقسيم باكثير للبحور كان أنثويا أم ذكوريا؟ ولماذا تأنثت هذه البحور الصافية على حين غرة حين ولدت نازك أخرى في (تأنيث القصيدة) بقدرة النقد الثقافي؟!.

ومع اعتراضي الحاد على مقولة إن البحور الصافية أنثوية، وإن المركبة ذكورية - وهذا أمر قد لا ينأى عن هذا المقام - فإن ما يبنيه الدكتور الغذامي على هذه المقولة التي لم يثبت تأكيدها منهجيا (إحصائيا وإيقاعيا ولغويا) ما يؤكد على أن محاولات إزالة آثار العدوان النقدي الغذامي الأول على ما جادت به نازك الملائكة من شعر ونقد قد تتخذ شكلا فنيا مجازيا، حين تمرر التقسيمة هكذا بكل سهولة ويسر: (البحور الصافية: مؤنثة، والبحور المركبة مذكرة) عند نسبتها إلى نازك، ويتجلى ذلك في وسم البحور الصافية بأنها (تحمل سمات الأنوثة) وأنها (قابلة للتمدد والتقلص كشأن الجسد المؤنث)، كما أن مبررات تعدد تسميات حركة الشعر الحر، بالجديد، أو بالتفعيلة، أو الحديث، والمنطلق، والمطور، وتبرير ذلك بأنها كانت تبحث عن (أنثويتها) وأن قصيدة الشعر الحر (تأنثت) لا يوجد لها أي سند علمي أو منهجي في أية نظرية أو مفهوم نقدي أدبي أو حتى ثقافي.

إن محاولات التعفية على آثار الآراء الأولى التي ساقها الدكتور عبدالله الغذامي في قراءته لتجربة نازك الملائكة، لم تستطع تغيير التناقض الجلي، ولم تبدل من حاجتنا إلى طرح السؤال وإعادة القراءة سواء تم ذلك في فضاء النقد الأدبي، أم في مجال النقد الثقافي وأنساقه الفحولية الكثيفة.

* أعترف هنا بأنني أكنّ للأستاذ الدكتور عبدالله الغذامي كل محبة وتقدير، وإنني - كقارئ على الأقل - أعده من أبرز النقاد العرب في الوقت الراهن، وأن ما يطرحه من آراء جديدة يحرك الساحة الثقافية، ويشغل الناس، وأن الغذامي هو أحد العلامات الثقافية البارزة في الثقافة العربية الراهنة، لكننا ألفنا من كتاباته حب الاختلاف، ووجود القارئ المختلف؛ ما يوسع من دائرة الحوار النقدي ويثريها.

* اعتمدنا هنا كتاب د. عبدالله الغذامي (الصوت القديم الجديد: دراسات في الجذور العربية لموسيقى الشعر الحديث)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى 1987م، وكتابه (تأنيث القصيدة والقارئ المختلف)، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1999م.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة