Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
قضايا
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 

تأنيث القصيدة من وجهة نظر النقد الثقافي
هل من تناقض..؟
عبدالله محمد الغذامي

 

 

كان الأستاذ ناصر الخزيمي قد كتب مقالة هنا في (الرياض) يتساءل فيها عن تغير في أحكامي النقدية في مسألة بداية الشعر الحر، وعن موقفي من قضية الخلاف حولها، ويشير إلى ما سبق أن قلته إن نازك الملائكة لم تكن سباقة في كتابة الشعر الحر، وأنها مسبوقة تاريخيا بمحاولات كانت في العراق ذاته بدأت منذ عام 1919م، وفي الأعوام التالية بما في ذلك نص للمازني عام 1924م، وبعدها محاولات في مصر ولبنان، في الثلاثينيات وفي العشرينيات، ومنها محاولة أبي حديد وباكثير وغيرهما، لقد قلت ذلك وحددت القول فيه في كتابي (الصوت القديم الجديد) وفي فصله الأول الذي هو بحث صدر في الأصل عن مجلة كلية الآداب، جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، عام 1400 (1980م).

ثم جاء كتابي (تأنيث القصيدة والقارئ المختلف) الصادر في 1999م، وبنيت القول فيه على ريادة نازك الملائكة في كسر النسق الشعري، وفي اختراق كتابة جديدة فيها تأنيث للقصيدة.

جاء كلامي هذا وكأنما هو تناقض تساءل عنه الأستاذ الخزيمي، وكأني أقول الآن غير ما قلته قبل عشرين عاماً في مسألة واحدة. لقد تساءل ناصر الخزيمي أولاً في مقالته تلك (الرياض 17-2-2000) وبعد سبعة أشهر جاء عبدالرحمن بن معيض آل سابي، ليطرح السؤال نفسه في ملحق الأربعاء (8-6- 1421هـ)، وفي اليمامة (10-6-1421هـ) ولعله لم يطلع على مقالة الخزيمي، ولعله من حرصه أيضاً كرر نشر المقالة، ليقول بهذا التناقض عندي.

وأنا ممتن للخزيمي ولآل سابي معاً لأنهما يعطيانني فرصة كي أوضح الفروق بين مفعول النقد الثقافي واختلافه النوعي الجذري عن النقد الأدبي، حتى لتتغير الأحكام بناء على تغير أداة الرؤية، ولو حدث فرضاً أن أحكامنا لا تتغير بناء على تغير الأداة المنهجية فهذا معناه أن هذه الأداة ليست ضرورية ما دام أنها تعطي حكماً معروفاً من دونها.

هذا أصل منهجي جوهري، به يتم تبرير الرؤية المنهجية وإثبات وجاهتها، وسأشرح كيف:

في الأصل كنت مثل غيري أنظر لحادثة الشعر الحر بوصفها حادثة أدبية تعالج من وجهة نظر تاريخية وعروضية وفنية جمالية. وكان سؤال الأولية سؤالاً في تاريخ الأدب، وهو حينئذ معني بالسابق لمجرد أنه سابق، وهنا لن تكون نازك سابقة فيه.. وهذا ما قلته وأثبت السبق لعراقيين في مطلع القرن، سبقوا حتى باكثير والخشن وغيرهما.

ولكن إذا ما تساءلنا عن ماهية هذا السبق، ووجدنا أنه مجرد محاولة فردية لا شيء فيها غير التجريب العروضي، ووجدنا أن هذه المحاولات لم تتمخض عن حركة أدبية تغييرية فنحن هنا - إذن - أمام حالة تجريب شكلية لا تمس الأنساق ولا تتحدى السياق القائم، وهذه صفة تلك المحاولات التي هي محاولات في التغيير العروضي وحسب ولم ترق إلى مستوى الحركة ولم يتمخض عنها ثورة في الكتابة الشعرية، وظلت الأمور على هذا الوضع حتى عام 1947 حينما ظهرت نازك ومعها السياب، وهذا هو الظهور الذي أحدث التغيير الفعلي في الأنساق وفي الأساليب وفتح باباً جديداً في الكتابة وفي النسق وحطم النسق الفحولي رمزياً وعملياً ومنه جاءت الحركة وجاء الفتح، وهو الفتح النسقي الذي أرى أن نزار قباني وأدونيس جاءا على غير وعي منهما لمواجهته والانتصار للنسق الفحولي القديم في مقابل هذا المروق النسقي.

إننا لو نظرنا إلى شروط التغيير النسقي وشروط المعنى العميق لكون الحادثة ذات بعد ثقافي، وليس أدبياً وتاريخياً وعروضياً فحسب، فخرجنا بهذه النتيجة التي أزعم أن مفهوم النقد الثقافي هو الذي يؤهلنا للنظر فيها وكشف جوهرها ومغزاها.

إن السبق العروضي التجريبي الشكلي هو لمن كتب في عام 1919 وإلى عام 1947م ولا شك في ذلك، ولكن الأمر في النقد الثقافي ليس لمن سبق شكلياً، ولكنه لمن أحدث تغييراً جوهرياً يقلب حركة النسق ويعيد ترتيب أوراق الثقافة. ولا شك هنا وبهذا المعنى أن رمزية قيام أنثى يافعة في مقتبل حياتها على كسر عمود الفحولة والتأسيس لنسق جديد ولفتح إبداعي مختلف ومخترق سيكون ذا مغزى عميق ورمزي ثقافي، خاصة أن هذا الحدث قد نتج عنه تطور نوعي في نسق الكتابة، أسمية تأنيث القصيدة بعد أن ظل الشعر خطاباً فحولياً على مر التاريخ كله، حتى بعد هذه الحادثة، حيث ظل التفحيل مشروعاً لا يعدم ممثلين له، ويظل هو المهيمن ولا شك.

ليس هناك تناقض إذن، لأن النظرة محكومة بشروطها، فالشرط التاريخي البحت يؤكد وجود محاولات عدة، لا يتجاوز عددها عشرين قصيدة متفرقة هنا وهناك ولعدد من المجربين على مدى ثلاثين عاماً، وهذا رصد تاريخي محايد.

أما ما حدث في عام 1947م وعام 1948 فهو حدث له ما بعده وليس مجرد محاولة عروضية فردية، ولو أن نازك وقفت عند قصيدة الكوليرا ولم تعقبها بقصائد وتنظير ووعي وحركة وحماس وحس شعري مختلف، لو أن هذا لم يحدث لظلت نازك مثل أولئك أي مجرد رقم يضاف إلى تلك المحاولات، أما وقد صار ما صار من نازك ومن السياب والذين أتوا بعدهم فإننا، وبحسب مفهومنا للنقد الثقافي، نكون أمام تغير نسقي له شأنه وأثره. وهذا ما يميز النقد الثقافي لأنه يكشف لنا عن أبعاد رمزية ثقافية تختبئ وراء الظاهرة الأدبية لم نكن نراها من قبل أو نحسب لها حساباً. وأخص مسألة صراع الأنساق وتأنيث القصيدة وسط خطاب فحولي، كما شرحت في الكتابين معاً.

* سبق نشر هذا المقال في الزميلة الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة