Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
سرد
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 
قصتان قصيرتان
فوزية الشدادي الحربي

 

 

نصف أنثى

أحاولُ فتح عيني بتثاقل، كل شيء يبدو حولي غريباً، الغرفة باردة جداً، إخوتي يلتفون حول سريري، هذا صوت بكاء أمي، زوجي يقف أمامي.

الغرفة لا أعرفها، الملابس التي علي لا تخصني، أصوات تتعالى تمتزج بعنف مع طنين الأجهزة، تسقط الأسئلة على مسمعي، لا أستطيع ترجمتها، أخي الأكبر بصوته الهادر يردد على الطبيب هل يعني ذلك انتحاراً يا دكتور؟ هل هي حالة انتحار؟

ياااه يا ترى ماذا حصل؟ أحاول أن أرتفع عن السرير، لكن كانت الإبر تمتص دمي، وصدري مربوط بالأجهزة التي تقيس نبضات قلبي المتهالكة، كانت

عيون إخوتي سياطاً من نار، أشعر بكيها يلهب أضلعي.

كان أحدهم يمرر يده على جهاز قياس نبضات قلبي، يتمنى أن تفضح له خفاياها.

أمي تمسح دموعها (بشيلتها) الملفوفة بإحكام على وجهها الطاهر، وبعيوني المثقلة بالهم والألم أقرأ حزنها، لعلي أعرف كم هي نادمة على شبابي الذي ضاع مع هذا الذي يحمل أوراقاً تثبت ملكيتي!

أتمنى أن أرفع صوتي وأقول لها:

أقسم بالله.. إني لم أخطئ بحقكم، اعلمي أني شريفة طاهرة

إلا إذا كان تلمسي لنبض قلبي جريمة

أو أن مصافحتي له ذات مساء خطيئة

كان هو يثبت وجوده بوقوفه عند أقدامي، لا يبدي أي مشاعر لم يزعجه أن الطبيب قال: محاولة انتحار، لم يكن ينتظر الإجابة، كل ما يهمه أن يكون هذا الجسد الطري ملك يديه وليذهب قلبها للجحيم.

يقترب مني أخي، أنتفض خوفاً، يشد شعري المتناثر بفوضوية على أكتافي بكل قوته وجبروته وملامحه الغاضبة، يقول: لِمَ الانتحار؟ لماذا؟

هل تريدين أن نكون حديثاً للناس؟

أطبق الحصار على لساني، وأشيح بوجهي عنه، هل أقول له بأني أخذت علبة المنوم، لأني فقط أردت أن أنام أنام أنام أنام، أريد أن أكون في اللاوعي، أريد أن أخرج من حصارهم لملكوت آخر من الخيال لا تمسه عيونهم وألسنتهم، تقترب أختي، تبعد يده عني، تمسح العرق الذي يتفصد من جبيني، تلملم شعري وتعقده خلف ظهري، تحاول إقفال أزرار ذلك اللباس الخشن وتستر ألمي المفضوح أمامهم منذ ليلة البارحة في طوارئ المستشفى.

وما لبثوا أن انسلوا واحداً تلو الآخر، ما عداه، ما زال ينصب نفسه حارساً شخصياً، قبل مغادرته يمرر نظره عليّ ويهمس في أذني: كم تبدين جميلة!!

اقتربت أختي مني أكثر، قبلتني، طلبت منها أن تتصل به لتقول له: تريد (أن تموت معك قبل أن تذوب في عالمهم المقفر)، لكنها تهزّ رأسها بالرفض، وتردد: لا أحد يستحق، تغرق بالدموع، ويرتفع صوت رفضها، لا أحد يستحق منك هذا الألم.

كنت أرجوها بكل ضعفي، بكل هواني، قلت لها: مادام يملك نصف روحي، نصف عمري، نصف سعادتي، نصف ضحكتي، نصف أنفاسي، فهو يستحق ذلك، أما أنا فلا أستطيع العيش مبتورة، لا أستطيع العيش نصف أنثى.. وعندما أحرقت دمعتي كفها تناولت هاتفها وطلبت الرقم، .. .. .. جاء الصوت سريعاً (غير موجود بالخدمة)، لحظتها بدأ طنين الأجهزة يخفت ويتلاشى، بدأت أنوار الغرفة تغرق بالسواد، ودمي الأحمر في الأنبوب يتجمد وأعود للاوعي مرات عديدة.

الثألول الأسود

يزداد كل يوم أمام المرآة إعجابها بنفسها؛ فهي دائماً تقلب نفسها ساعات طويلة وتتغزل في ملامحها!

ما أجمل عيني ولا فرق في جمالها إذا وضعت العدسات الزرقاء أو العسلية!!

فتحت رسائل هاتفها النقال.. الرسالة الأولى قال أحدهم فيها: أنت حلوووة بشكل لا يحدث إلا من طفرة جينية نادرة الحدوث، يجعل الاقتراب منك كالاقتراب من نجم.. سحبت من صدرها نفساً عميقاً ومدّت عنقها بدلال، بأصابعها التي تشبه الأقلام الفاخرة.

فتحت الرسالة الأخرى من آخر عبرت أمامه قال:

يا ذات الكيان الفريد، كطرازات (بي إم دبليو)، وكنشوة سكر وارتعاش سحابة هزها صوت الرعد وفضحها فلاش البرق فذابت حياء تريد أن تلتحف الرمل بسرعة.

التفتت للمرآة قالت: سبحان من خلق.

جمالها المفرط جعلها لا تفكر بالزواج أبداً.. تريد أن تكون محط الأنظار في المناسبات والطرقات، متعتها بأن تلحظ الأعناق تلتوي لملاحقة جمالها الأخاذ، كثيراً ما عنّفها والدها لرفضها الزواج، كان كل ما يسعدها أن يأتيها عريس وترفضه.

تتلاعب بخصلات شعرها الذي يتمرد بين أناملها وتقول لوالدها: بصراحة لا يعجبني ولا أعتقد أنه الإنسان الذي يستحق أن يفوز بحسني وجمالي!! وعندما يسدل الليل ستائره السوداء القاتمة على غرفتها التي تزين جدرانها صورها الملونة، تقبع بمفردها تحاكي غرورها المنتصر عليها.

(خسارة هذه الفرص قد لا تعود).. تستدرك نفسها لا... بل يجب أن أكون أنا المميزة، بأي ذنب أحرق جمالي؟! بعد ذلك، لن أكون حديث الشباب الباحثين عن زوجة جميلة، لن تبحث العيون عني بعد الزواج.

لن أشعل غيرة هذه وتلك.. ولن.. ولن.. رغم جمالها وغرورها وحبها العنيف لذاتها، فقد كانت متسامحة لفتح باب الزواج لأخواتها اللاتي يصغرنها!

وفي أعراسهن تدار الأسطوانات الرائعة الراقصة لها فقط، وتنتقل كالفراشة بين الحاضرات. وبعد الساعة الواحدة صباحاً تعود للبيت مع والدها لتجد جدران غرفتها خاوية..

تخلع ملابسها وترتدي البيجامة وتمحو أصباغها عن وجهها وتقابل رفيقتها تتحسس معها خطوط السنين الجريئة يغافلها النوم على الكرسي وقد احتضنت يدها كومة رأسها المشتت.

هذه الغفوة صعقها رنين الهاتف المتواصل تنظر للساعة، كانت الواحدة ظهراً، تحمل سماعة الهاتف.. مرحباً

أهلاً هل كنت نائمة؟ فقد كررت الاتصال أكثر من مرة ولم تردي؟

- والدي أين أنت ومتى خرجت؟

- لقد صحوتُ يا عزيزتي باكراً وأحسست بتوعك كان يزورني بين الفينة والأخرى، فذهبت إلى الطبيب وطمأنني وسوف أعود بعد قليل.. جلست هي على الكرسي الهزاز تراقب ساعة الحائط وتقلب رسائلها القديمة.

كل ما حولها يلفه الصمت والهدوء، لا يقطعه سوى أزيز هذا الكرسي المتهالك.

يحضر والدها بحفنة من الأدوية لقلبه العليل ويسقط طريح الأنين أسير المرض.. ويغادرها بهدوء كل شيء الآن هادي صامت، فلا باب يطرق، ولا نغمة رسالة جديدة، تحمل هاتفها لتبث أخواتها وحشتها، تريد أن تحكي معهن عن ذكريات قديمة، أختها الكبيرة لديها ضيوف ومشغولة بالمطبخ، وتلك لا ترد.. تتذكر بأن اليوم الخميس وعادة ما تكون أخواتها خارج المنزل مع أولادهن.

تعود لمرآتها.. تمرر أناملها وتتنهد بعمق..

تقرب وجهها من المرآة وتصيح.. يا إلهي ما هذه الندب تحت عيني الجاحظتين.. كيف.. آه.. كيف سطا هذا الترهل على خدودي في غفلة مني، يا إلهي.. كم تفاخرت كثيراً بهذا (الخال) حول شفتي ما لها اليوم تتدلى كالثألول الأسود!!

تأخذ الشال الثقيل، وتقبع على الكرسي العتيق، تحيك قبعات صوف لأبناء إخوتها، وتملأ الشرفة بالقصاصات البالية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة