Culture Magazine Monday  05/02/2007 G Issue 185
ذاكرة
الأثنين 17 ,محرم 1428   العدد  185
 
مقال (الرثاء) قبل جلاء الأمر
ورحل (راضي صدوق).. بهدوء!

 

 

في دبي وأنا أزور جناح الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض في معرض سيتي إسكيب الدولي في ديسمبر من العام الفارط.. أبلغني أحد المشرفين على الجناح عندما سألت عن أستاذنا الأديب والشاعر الكبير راضي صدوق الذي يعمل معهم في إدارة العلاقات العامة بالهيئة بعد عودته الثانية لوطنه الثاني المملكة من الأردن وروما.. بأنه انتقل إلى رحمة الله.. وحزنت للخبر الذي لم أكن أعرفه أو سمعت به.. ورددت بحزن ..ليرحمه الله ويرحمنا، لقد كان أستاذاً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى.. ونسينا جناح الهيئة ومعروضاته وأصبح حوارنا عن الشاعر والأديب راضي صدوق الغائب الحاضر وذكرياتنا عنه ومعه ومآثره.. وقد أحزنني وآلمني أكثر ولم أصدقه هذا الجحود الغريب لصحافتنا المحلية وصفحاتها الأدبية التي لطالما صال وجال فيها هذا المبدع على إمتداد ثلاثين عاماً ويزيد.. بل وكان يكتب كما أعرف مجلة البلاد التي سبقت في الصدور كمجلة مستقلة.. مجلة اقرأ من الغلاف إلى الغلاف وبأكثر من اسم. فلم أقرأ خبر نعيه في تلك الصفحات ولم أعرف كغيري من محبيه ما حدث له.. فمثله يستحق أكثر من خبر ورثاء.. بل ملحق وصفحات وكلمات بأقلام زملائه وتلاميذه ومن عاصروه من جيل الرواد والوسط والشباب.

عرفته قبل ربع قرن في العروس (جدة) وأنا أتلمس خطاي الأولى في بلاط جامعة البلاد جريدتنا السعودية الرائدة.. أسعد كل مساء بعد أن أسلم أخبار الصفحة الرياضية لموضبها رجب خميس ليتولى صفها بالرصاص وطبعها وإرسال البروفات المائية للأستاذ علي الرابغي ليراجعها ويجيزها.. بسماعة وصفوة الأدباء الكبار الذين يجتمعون في مكتب أستاذنا السيد عبدالله الجفري الأديب اللامع المتألق.. يناقشون العديد من القضايا السياسية والأدبية والاجتماعية.. ويقرؤون آخر إبداعاتهم وكتاباتهم في الأدب والشعر.. درر من الكلام الجميل الموزون والمتعوب عليه برواقة.

وأنسى نفسي إلى بعد منتصف الليل.. لأخذها كعابي إلى منزل الأسرة بعد أن تكون خطوط البلدة قد باتت في جراجاتها لتواصل مشوار الصباح مبكراً. ولم نكن نجرؤ وجيلي من شباب الحرف.. على مقاطعة الكبار أو التعليق بل سمع هُس حتى تنتهي الحصة الإبداعية ونظفر بمعرفة أسماء بعض الكتب الجديدة أو القديمة التي كانت محور حوارهم والنقاش.. لنشتريها في اليوم التالي من مكتبة الدار السعودية أو سواها بالشيء الفلاني بكل رضا وقبول ورغبة في التعلم علنا نصل إلى بعض إبداعهم وأسلوبهم ومستواهم الكتابي والكلامي.

ولم ننتظر طويلاً فقد قربت بيننا الأيام والكلمات التي كنا نكتبها بين الحين والآخر في صفحات الجريدة تعليقاً أو كمحاولات كتابية تستحق التشجيع والمتابعة.. وكان الكبار كعادتهم يساعدوننا في التطور وإبراز إبداعاتنا نشراً وتوجيهاً.

ووجدتني قريباً من (راضي صدوق) المتعدد المواهب الذي جعل الإبداع همه الأول في الحياة.. ولم يكتف بالصحافة بل كتب للإذاعة السعودية أعمالاً خالدة من مسلسلات وبرامج دينية وثقافية وتاريخية.

وأصبحنا أصدقاء رغم فارق العمر الزمني والإبداعي بيننا.. وكان يحرضني على الاستمرار في النقد الأدبي دون وجل.. والقراءة لكبار الكُتَّاب السعوديين والعرب ويختار لي أسماء بعينها.. وعندما فكر في تأسيس أول صحيفة عربية دولية خارج جغرافية الوطن العربي والتي أسماها (الأيام)، أختارني كمدير لمكتبها في جدة وحصل على موافقة الجهات الإعلامية بذلك.. ليسبق جريدة الشرق الأوسط وسيل الصحف المهجرية التي كرت سبحتها بعد ذلك لتملأ حياتنا الإعلامية والثقافية إصداراً.

وإن لم تستمر التجربة الثرية الناجحة وصحيفته الدولية العربية.. لأكثر من سبب فقد كان راضي لا يملك سوى قلمه وطموحه، ومشروع مثل هذا يحتاج إلى رأسمال مالي واقتصادي كبير بالإضافة إلى العديد من العراقيل والتعقيدات السياسية التي وجدها ممن أحسن الظن بهم وإليهم وأقرب الناس.

وعاد بعد أن أضاع تحويشة العمر في الأيام (الجريدة) الدولية في روما.. إلى المنزل الأول.. للبلد التي أحبه كبلده الأول فلسطين والأردن.. ليعمل مرة أخرى فيه.. ليس في الصحافة والإعلام كما تعود.. بل في عمل إعلامي صغير بعيد عن تخصصه ونبوغه.. ضمن كادر إدارة العلاقات العامة بالهيئة العليا لتطوير الرياض.. ليكتب بقلمه الذي لطالما كتب به أخلد وأهم الأشعار والمسرحيات والمقالات والبحوث.. مادة المطويات الدعائية والتعريفية لإنتاج مصلحة عمله.. ليظفر بالعيش الحلال والستر دون ضجة واللجوء إلى الآخرين للمساعدة.

وكنت أزوره في مكتبه المتواضع الأخير كلما سنحت الفرصة.. ونستعيد معاً ذكريات وسنوات لا تنسى من عمر الزمن.. وعن تلك الأمسية الشعرية التي ألقى فيها قصيدته الرائعة عن الحياة والمجتمع وما آل إليه أمر الناس من مشاغل وهموم بعد الطفرة الاقتصادية بسبب ارتفاع أسعار النفط بعد حرب العاشر من رمضان.. والبيت الشعري الذي قاله وأنهى به قصيدته لتكون محور حوار الحاضرين من علية القوم بعد ذلك:

أبتعد عني قليلاً فإنك

قد حجبت ضوء الشمس عني

ورحل الشاعر والأديب الرائد راضي صدوق الفخور بعروبته.. الإنسان الجميل بعد أن رأى تكريمه وإبداعه حياً من خلال رسائل الدكتوراه والماجستير التي أعدت وقدمت عن أشعاره وأعماله الأدبية.. ولكنه لم يلق التقدير الذي يستحقه من أهل الدار الذي لطالما أحبهم وأخلص لهم.. أهل الأدب والأدباء والثقافة.. ولم يكن ممن يبحث عن التقدير من الآخرين أو يطلب ذلك بأساليب العصر الفضائي.

فرحل بهدوء وبلا ضجيج كهدوء طبعه.. حتى أن أقرب الناس إليه والكثير من محبيه لم يشعروا برحيله الحزين إلى دار البقاء.. تغمده الله بواسع رحمته وغفر له ولنا.

* ناشر ورئيس تحرير مجلة العقارية عضو هيئة الصحفيين السعوديين


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة