Culture Magazine Monday  05/03/2007 G Issue 189
فضاءات
الأثنين 15 ,صفر 1428   العدد  189
 
رفيف
المكتبة الكونية: امتداد العشق والذاكرة
فاطمة الوهيبي

 

 

بورخيس عاشق الكتب الأعمى، بورخيس الذي فُتن بالكتب والقراءة والمكتبة الكونية والمعرفة الأبدية كان يعتقد أن ما هو جوهري في الحياة يكمن في الكتب: قراءتها وتأليفها والحديث عنها. وكان يؤمن بأنه يواصل حوارا بدأ قبل آلاف السنين، وهذا الحوار مستمر ممتد، وحسب وجهة نظره، لن تكون لهذا الحوار نهاية. فالكتب برأيه ترمم الماضي، بل هي -كما سنرى- تمنح الخلود والسعادة.

(بورخيس) الذي كفّت عيناه استعاض عنهما بأنامله ليقرأ! كان يكفيه أن يمرر أنامله على الأرفف فيقرأ!! وليس في هذا القول مبالغة أو خيال شاعري، فهذا ما يقوله عنه (ألبترو مانغويل) في مقابلة له مع بورخيس نُشرت ضمن كتاب بورخيس (المخلوقات الوهمية). في هذه المقابلة يحلّ (مانغويل) ضيفا على (بورخيس)، ويقص بحب وشغف ما عرفه عن (بورخيس) وما رآه من عشرته المميزة للكتب. يقول عنه (أحيانا يختار هو كتابا من على رف. طبعا هو يعلم بدقة موضع كل كتاب فيتقدم نحوه ويمسك به من دون تردد. ولكن قد يصادف وقوفه في... مكتبة غريبة مثلا فإذ ذاك يحدث ما لا يمكن تفسيره. يمرر بورخيس يديه على حواف الكتب كأنه يتلمس سطح خارطة من خطوط ناتئة غيرمستوية، حتى لو كان يجهل النواحي فكأن جلد كفيه يقرأ له الجغرافيا. عندما تلامس أصابعه كتبا لم يسبق له أن فتحها من قبل، ينبئه شيء أشبه بحدس الحِرَفي أي كتاب يلمس، وهو قادر على تخمين عناوين وأسماء لا يسعه أن يقرأها بالتأكيد... ولا أجانب الحق إذا قلت: إن ما يربط بين هذا الكتبي العجوز وبين كتبه علاقة قد تعتبرها قوانين المادة الفيزيولوجية علاقة مستحيلة). (المخلوقات الوهمية ص 144).

بورخيس الذي يؤمن بالحوار المتواصل عبر الكتب منذ آلاف السنين قال ذلك صريحا في تأمله لمسألة الإهداءات، وقد تحدثت عن ذلك في المقالة السابقة. فامتدادات الكتب والمعرفة الأبدية التي لا تنقطع تتناسل عبر الكتب، ذلك ما يخلق ذاكرة تتوارث. ومن الطريف أنه يمكن ربط هذه الفكرة بمسألة الصدفة عند بورخيس. فبورخيس قارئ حر، وكان قارئاً (يتكل على الحظ ويسعد ببعض ما يعثر عليه بمحض الصدفة... لم يشعر يوماً بأنه مرغم على قراءة كتاب بأكمله حتى الصفحة الأخيرة. يقول بورخيس عن نفسه: (أنا قارئ متعي لم أُجز يوماً لإحساس بالواجب أن يتدخل بمسألة شخصية جدا كمسألة شراء كتاب).

هذه القراءة المتعية والامتداد عبر إرث الذاكرة جعله في أعوامه الأخيرة يكتب سردا تحت عنوان (ذاكرة شكسبير) يسرد فيه حكاية رجل يرث ذاكرة مؤلف هاملت. فهو يؤمن بأننا جميعا نتوارث ونمتد عبر ما نقرأ وعبر ما نكتبه فيمتد للآخرين كإرث وذاكرة. ولأنه كان يمتلك ذاكرة مذهلة فقد كانت هذه الذاكرة تساعده في تحويل كل قراءة إلى قراءة حفرية منتجة. ومن هنا يمكن أن نفهم ما يقال عنه من أن القراءة في نظره هي شكل من أشكال الحلول. ويمكننا كذلك في هذا السياق أن نفهم فكرته القائلة: (إن كل كتاب، مهما كان، يتضمن وعدا، بجميع الكتب الأخرى، على نحو آلي وفكري في وقت معا) وهذه الفكرة ضمنها كتابه (مكتبة بابل) كما أن هذه الفكرة مضمرة في قصته (تمحيص أعمال هربرت كواين) وفيها (يبتكر كاتب وهمي سلسلة لا متناهية من الروايات مبنية على مبدأ المتوالية الهندسية). وقد قال في سياق حديث له عن تدمير مكتبة الاسكندرية: (إن عدد الموضوعات والكلمات والنصوص محدود. وبالتالي لا شيء يضيع إلى الأبد. إذا ضاع كتاب فثمة دائما من يكتبه مجددا... وينبغي لمثل هذا الخلود أن يكون كافياً في نظر الجميع) (كتاب المخلوقات الوهمية ص176).

يقول عنه (البترو مانغويل): (هناك كُتّاب يحاولون أن يضعوا العالم في كِتاب. وهناك آخرون وهم قلة، يرون أن العالم هو كِتاب، كِتاب يحاولون قراءته لأنفسهم وللآخرين. بورخيس كان واحدا من هذه القلة النادرة. كان يؤمن ومهما كان من أمر الظروف المحيطة، بأن واجبنا الأخلاقي يكمن في أن نكون سعداء، وكان يؤمن بأنه يسعنا جميعا أن نهتدي إلى هذه السعادة في الكتب، وإن كان عاجزا عن تفسير ذلك: (لا أدري بالضبط لماذا أعتقد بأن الكتاب يجلب لنا إمكان السعادة... غير أنني ممتن كل الامتنان لهذه المعجزة) كان يثق بالكلمات بكل ما تنطوي عليه من هشاشة وبمثله كان يهبنا، نحن قراء كلماته حظوة بلوغ مكتبته اللامتناهية) (كتاب المخلوقات الوهمية ص176 - 177) تلك المكتبة التي سماها المكتبة الكونية.

بقي أن أقول إن (البترو مانغويل) هذا الذي حل ضيفا على بورخيس كقارئ وروائي فُتن هو الآخر بالكتب. وفي كتابه (في غابة المرآة) ينشغل باستقطار رؤاه وحكمته وفتنته بالكتب والقراءة الواعية، فهو يرى أن (الكلمات على ورقة تجعل الكون متناسقا وأن الكتاب يجعلنا أفضل وأوفر حكمة)، وهذا الإيمان الساري بشعاع الكتب وما تمنحه من معرفة ونور وسعادة وامتداد لا يأتيه فحسب من فتنة بورخيس بها، فكلاهما داخلان في خضم عشق كبير. وهما ليسا سوى عاشقين من العُشاق الجدد، وكم في التاريخ عربيّه وغربيّه وشرقيّه من قصص عُشاق للكتب وصحبتها. التاريخ يفيض بهؤلاء العشاق الذين لم يقلقهم أبدا غزو التقنية الحديثة وعالم الصورة والشبكة العنكبوتية. هذا القلق الذي قد يظهر عند بعض المهتمين مثل الناقد البريطاني جون كاري في كتابه (متعة مجردة) حيث يثير التساؤلات عن موقع الكتاب وسط هذه التحديات الكثيرة، ويسبح في قراءات غير مسيجة بأوهاج الشهرة والذيوع، ويخلص إلى أن الكتاب سيستمر طالما بقي المرء قادرا على الاحتفاظ بمتعة القراءة. ويؤمن أنه إن يستيقظ المرء ويجد نفسه في عالم خال من الكتب فذلك ما يعد فعلا كابوسا فظيعا لا يحتمل!!

وأختم بعبارة موحية وردت للفرنسي باسكال كينار الفائز بجائزة غونكور سنة 2002م حيث يقول: (الاكتشافان الكبيران: المغارة في الجبل، والكتاب في الكلام) فتأمل كيف يمسي الكتاب مغارة للكون والحضارة!!

سقطت سهواً من زاوية(رفيف) الأسبوع قبل الماضي إحالة الكاتبة إلى مقال عيسى مخلوف«إحتفاء ببورخيس» المنشور بصحيفة الرياض عدد 11322 بتاريخ 10/3/1420هـ

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7845» ثم أرسلها إلى الكود 82244

rafif_fa@maktoob.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة