Culture Magazine Monday  05/03/2007 G Issue 189
فضاءات
الأثنين 15 ,صفر 1428   العدد  189
 

المثقفون العرب في الممارسة «1»
د. خلف الجراد*

 

 

تكاد مشكلة الانفصال بين الثقافة المعرفية والممارسة السلوكية أن تشكل التجسيد الأبرز للازدواجية التي نعاني منها، ولا سيما في المرحلة الراهنة الصعبة والمعقدة من تاريخنا المعاصر.

لقد صنعت الموجة الاستهلاكية - المادية في مجتمعاتنا نمطاً من المتاجرين بالكلمة، الذين يمتلكون مواهب متعددة و(شطارة) كبيرة للظهور في المنتديات والمحافل الفكرية والأدبية ووسائل الإعلام، مع فهلوية (سيركية)... جعلت منهم (نجوماً) دائمين في معظم الفضائيات والقنوات العربية، ناهيك عن قدرات خارقة للحديث في كل العلوم والفنون وأجناس الأدب والبحث العلمي والماورائيات وأسرار النفس البشرية... إلخ.

وطبيعي أن يغيب في هذه (السوق) و(البازار) صوت العقل والمنطق، ويتوارى دعاة الحوار الموضوعي والكلمة المسؤولة، الذين يفهمون أن الأدب رسالة، وأن الإعلام رؤية وطنية شمولية، وأن الثقافة موقف والتزام بقضايا الناس، واستعداد تام للتضحية.. من أجل كلمة حق، أو رأي حر، أو إبداع أصيل، أو مواجهة للمنافقين والمهرّجين والمشعوذين، الذين يغيرون مواقفهم ومواقعهم واتجاهاتهم وقصائدهم أسرع من تغيير ألبستهم. فكان من أخطر مفرزات الحقبة المذكورة بروز (فئة قديمة - جديدة) هلامية التكوين، أخطبوطية الأبعاد والامتدادات من (سماسرة الفكر) و(تجار الكلمة) ممن لا هدف لهم ولا غاية سوى الارتزاق والتكسب والبقاء الدائم تحت الأضواء بأي شكل أو أسلوب، وعبر أي خطاب أو موقف أو لا موقف.

وبالمقابل لم تستطع الفئات الواعية النظيفة أن تسهم بصورة فعالة في تحديث المجتمع لأسباب كثيرة، لعل أبرزها ما جاء على لسان الباحث العربي علي موسى من (أن المفكرين لم يلجوا إلا القليل في المجالات التي تعني الأمة... هذا الانفصال أفقدهم الوزن الذي يمكن أن يعطيهم الوزن اللازم في المعادلة).

فمن المنطقي أن يكون تجاوب المجتمع مع المثقف مرهوناً بقدرة هذا الأخير على الإفصاح عما يختلج في أعماق المجتمع من حاجات ومشكلات واتجاهات وتطلعات.

وقد أشار باحثون كثيرون إلى أن من أسباب الفصام بين المثقفين والمجتمع (غياب الرؤية الحضارية الشاملة لدى كثرة المثقفين). وأكدت هذه الفكرة (الخطة الشاملة للثقافة العربية) التي أعلنت بصورة واضحة أن (الأسئلة الكبيرة التي تطرحها المحصلة النهائية لكل ذلك هي مدى استناد الحركة الثقافية العربية المعاصرة إلى رؤية فكرية حضارية شاملة ذات موقف واضح محدد من الكون والتاريخ والمجتمع والإنسان والفن.. تكون الإطار المرجعي لها).

ويرى آخرون أن تشتت المثقفين وعجزهم عن تكوين قوة ثقافية فاعلة يشكل سبباً أساسياً من أسباب فراقهم مع المجتمع وعجزهم عن التأثير فيه.

وفي هذا يقول عاطف عضيبات: (ليس هناك انتلجنسيا في العالم العربي، على الرغم من وجود وفرة من المثقفين العرب، وأقصد بالانتلجنسيا هنا، تلك الفئة الاجتماعية المنظمة التي يقوم بين أفرادها نسيج فكري وثقافي يربط فيما بينهم ويساعدهم على صياغة رؤية شمولية لواقع مجتمعهم وطموحاتهم. فبدلاً من وجود انتلجنسيا عربية كمجموعة مثقفة اجتماعية منظمة ومتجددة في التاريخ والثقافة العربية، توجد في حقيقة الأمر فرديات مثقفة).

ومما قيل في تشرذم المثقفين العرب: إنه يعبر عن (البداوة الفكرية) - حسب قول أحد المفكرين العرب - التي (ينظر من خلالها كل مفكر، عن وعي أو غير وعي، إلى غيره من المفكرين كما لو كانوا منقسمين إلى قبائل، وكل قبيلة إلى عشائر، وكل عشيرة إلى بطون، وكل بطن إلى أفخاذ).

وفي وسع المرء أن يمضي بعيداً في حشد الأدلة والوقائع التي تبرهن على الوضع الانقسامي الذي يعاني منه المثقفون العرب، غير أن ذلك لن يضيف إلى الأمر جديداً، ولكن ربما يكون من المفيد في الإطار ذاته الإشارة السريعة إلى عدد من العوامل التي تسهم مجتمعة أو منفردة في تعميق الفجوة بين المثقفين والمجتمع، مثل: ضعف المعرفة بالواقع، الانطلاق من أفكار سابقة ومواقف ثابتة... والعمل بعد ذلك على تسويغها وتسويقها، الاعتماد على المحاكاة وترديد مقولات الآخرين... وتبنّي أفكارهم وأطروحاتهم دون نقد أو تمحيص أو مراجعة، العجز عن تقديم التراث بصورة واعية وفي سياق رؤية شمولية دقيقة، مظاهر التشوه الحاصل في أوصال وهياكل المجتمع العربي، وعلى رأس مظاهر التشوه؛ النمو غير المتوازن بين الزيادة السكانية وقلة الموارد وعدم التلاحم بين (أصحاب السيف وحاملي القلم)، والفجوة القائمة بين الطموحات الكبيرة للمثقفين والإمكانات المحدودة ... إلخ.

أردنا من إثارة تلك الانتقادات والأسئلة لفت الانتباه إلى العلاقة الإشكالية بين المثقفين والمجتمع، حيث يلاحظ انتشار عدد من الأوهام النخبوية والتصوّرات غير الواقعية لدى نسبة عالية من المثقفين، إضافة إلى الفجوة القائمة بين النظرية والسلوك، بين الشعارات المرفوعة والممارسات اليومية المعاكسة والمناقضة، وعدم فعالية هذه الفئات في المجتمع العربي.

كل ذلك ينبع في الواقع من قناعتنا بأهمية الفئات، الفئات المثقفة من جهة، ومن موقع الحرص على دورها ومكانتها وفاعليتها في المجتمع. وبالتالي، فإن ما يقلقنا هو عجز المثقفين العرب عن إقامة علاقة صحيحة مع الجماهير، التي يطيب لهم التحدث باسمها والتغني بعظمتها وطهرانيتها... إلخ.. وهي علاقة تحتاج إلى دراسات وبحوث معمقة لكيفية تطوّرها عبر تاريخنا العربي، وارتباط ذلك كله بعصور انهيار المشروعات السياسية والاجتماعية والمعرفية، ولا سيما في النصف الثاني من القرن المنصرم.

فمن وجهة نظر بعض الباحثين فإن علاقة ممتهني العمل الثقافي بالحكومات أقوى من علاقتهم بالشعب، وإنْ تفاوتت الدرجة تبعاً للتيارات.

أما الوضع الاجتماعي والطبقي فيظهر أن أغلبية المثقفين يعيشون في منطقة سكنية واحدة، وأولادهم يذهبون إلى المدارس نفسها، وهم على الأرجح أعضاء في الأندية نفسها.. وهو ما يعني أنّ المثقفين ينقسمون إلى تيارات إيديولوجية في التعبيرات الثقافية، في الكلام فقط؛ ولكنّهم موحدون في أنماط المعيشة. (د. فهمية شرف الدين)

وتبعاً لمعظم الدارسين لهذه المسألة، فإن المثقفين ما زالوا أسرى التقوقع النخبوي والاستعلائية المبطنة، وتوهم امتلاك الحقيقة والمعرفة والحكمة الكاملة. وفي هذا السياق يشير الدكتور محمود عبد الفضيل إلى انتشار أمراض (الفردية) و(الشللية) في أوساط المثقفين العرب.. وكيف أن المنطقة العربية حفلت بنموذج (المثقف الطاووس) الذي يختال عجباً بنفسه، لا يرى إلا نفسه في المرآة، ولا يرجع سوى إلى أعماله ومؤلفاته.. ويهدر الإشارة إلى غيره من المثقفين والمبدعين. بل إنني شخصياً قرأت تصريحاً لكاتب (ومفكر) عربي معروف قال فيه صراحة: إنه لا يقرأ مطلقاً دراسات ومؤلّفات غيره من الكتّاب العرب، الذين يبحثون في المسائل الفكرية ذاتها، التي يشتغل عليها.. فهو يكتب وعلى الآخرين أن يقرؤوا ما يبدعه، فهذا شأنهم وحدهم (على حدّ تعبيره). ولقد وصف أحد المثقفين الجزائريين ذات مرة مصالي الحاج (رئيس حزب الشعب الجزائري قبل اندلاع حرب التحرير الوطنية الجزائرية)، إنه لم يكتف بأن يؤذن لشروق الشمس... بل ادّعى أنه هو الذي ابتدعها.

إن ما يقوم به عدد من (كبار) المثقفين وأساتذة الجامعات في وطننا العربي أقرب ما يكون إلى السلوك الإقطاعي، حيث تحدث عملية تحصيص وتضخيم وتقديس لإنتاج (أئمة) الفكر العربي المعاصر، مقابل عملية تسفيه وإهمال للأسماء الجديدة الواعدة، ما يضطر قسماً من هؤلاء الوافدين إلى ملكوت الفكر للاكتفاء بدور المريدين، الدائرين في فلك الكوكب الكبر... والترويج لأعماله، وحفظ مقولاته وتعابيره دلالة على التبعية، والانبهار و(الذوبان).

هذه (التراتبية) والهرمية في الثقافة العربية نتيجة طبيعية لأوضاع التخلف، وهي تشكل في الوقت ذاته عنصراً فاعلاً في إعادة إنتاج الأزمة.. ومن مظاهر هذه الأزمة أنّ عدداً ممن أطلق عليهم صفة (المثقف الكبير)، (المفكر العظيم) و(الفيلسوف النابغة)، وغير ذلك من ألقاب تعظيمية، تبجيلية استمرؤوا ذلك وأدمنوه، من ناحية، واكتفوا باجترار ما أنتجوه في لحظات معينة.. متوقفين عن الاجتهاد والابتكار ونقد الذات من ناحية أخرى.

ومن باب التهكم والسخرية المرّة وتسليط الضوء على نماذج طافية معروفة في أوساط المثقفين العرب، كتب جلال أمين مقالاً عنوانه (دليل الرجل الذكي إلى فنّ إمساك العصا من الوسط) في صحيفة (الأهالي 1977م) حيث يقوم عدد من هؤلاء (المفكّرين) و(المنظّرين) باستلال مجموعة من المصطلحات الجديدة المراوغة ذات وقع محمود على الأسماع.. فبدلاً من الحديث عن تصفية شركات القطاع العام، يمكن رفع شعار الريعية والربحية والجدوى الاقتصادية، وبدلاً من الحديث عن إلغاء الدعم للمؤسسات الثقافية، يجري الكلام حول إطلاق حرية المنافسة الشريفة وفتح آفاق التنافس.. إلخ.

وهنالك نموذج (المثقف الترزي (تبعاً لوصف جلال أمين) الذي يجيد السير في الركاب، ويمنح ولاءه وموهبته لمن يقبض على زمام الأمور، أياً كانت توجهات السلطة السياسية، من دون شعور بأدنى أزمة، أو مشكلة، أو تأنيب ضمير - وهو دائماً في حالة (جاهزية) - (فهو مثقف كل العصور، يجيد حياكة ثياب النظم وتشريعاتها، ويزوّقها بأحدث صرعات بيوت الأزياء الراقية في الخارج. فهو مثقف عصري بكل المعايير، لا يؤرقه ماضيه السياسي أو الفكري؛ فهو دائماً في الخدمة للسيد الجديد القابض على زمام الأمور). (د. محمود عبد الفضيل).

* باحث وكاتب من سورية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة